الاثنين، 17 نوفمبر 2014

أثر العبادات في تربية الأفراد




أثر العبادات في تربية الأفراد

 




العبادة في الشرع:

العبادة هي كل ما يجمع كمال الخضوع والمحبة، والخشية لله تعالى.


يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:"العبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع، والعرب تقول: طريق معبد أي مذلل، والتعبد: التذلل والخضوع، فمن أحببته ولم تكن خاضعا له، لم تكن عابداً له، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابداً له، حتى تكون محبّاً خاضعاً"


ويقول ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسيره لقوله تعالى: ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ( "والعبادة في اللغة: من الذلة، يقال طريق معبد وبعير معبَّد أي: مذلل، وفي الشرع: عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف، وقُدِّم المفعول وهو إياك وكرر للاهتمام والحصر، أي لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين".


ومن هنا نستطيع أن ندرك أن العبادة التي قصد إليها الشارع، والتي تعلى الإنسان وتشرفه، وترفع من قدره ومكانته، وتجعله يحس بإنسانيته وكرامته، هي تلك التي تجمع بين الخضوع لله تعالى، والمحبة له، والخشية منه، وكلما اكتملت هذه المعاني في عبد كان أقرب إلى ربه، وأكرم عليه من غيره، وأحق بالأمانة في الدين، وقيادة المتقين، والحديث عن رب العالمين.



وأساس الخضوع لله تعالى هو: الإحساس الصادق بهيبته وعظمته، وسلطانه وقدرته، وأنه المعطي المانع، الضار النَافع، المحيي المميت، الخافض الرافع، المعز المذل، السميع البصير، الغني عن كل ما سواه، والمحتاج إليه جميع ما عداه.

أثر العبادات الإسلامية في تضامن المسلمين إجمالاً:

والعبادات التي تترك آثارها الطيبة، ونتائجها العظيمة، في وحدة المسلمين وتضامنهم، ليست انطواء أو انزواء، أو عزلة عن الحياة، والأحياء، للقيام ببعض الشعائر كالصلاة والذكر كما يتصور بعض الناس، ويظنون أنهم إذا قاموا بذلك منقطعين عن الحياة والأحياء، فهم العباد، هذا مفهوم خاطئ وقاصر؛ فمفهوم العبادة في الإسلام أرحب وأشمل، وأدق وأعمق من هذا التصور المحدود.


إن العبادة في الإسلام تشمل كيان الإنسان كله كما تشمل الحياة بأسرها، ولذا فإن العبادات إذا فهمت فهماً صحيحاً وطبقت تطبيقاً دقيقاً أعطت مجتمعاً قوياً متيناً كالبنيان المرصوص، يسعى بذمته أدناه، ويكون يداً على من سواه.


قال ابن تيمية رحمه الله:"العبادة اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم، والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله، وخشيته والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة، وذلك أن العبادة هي: الغاية المحبوبة والمرضية له التي خلق الخلق لها كما قال الله تعالى: ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ .   


وبها أرسل الله جميع الرسل كما قال نوح لقومه: ) اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه ، وكذلك قال هود وصالح وشعيب لقومهم، وقال تعالى: ) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ  ، وقال تعالى: )وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ  ، وقال تعالى: )إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ، كما قال في الآية الأخرى: ) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ` وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ .



وبعد هذا العرض المجمل عن أثر العبادات في إصلاح الأفراد والجماعات وعن مدى النتائج الحتمية لذلك وهو التعاون والتراحم والتضامن والتلاحم الذي تكون به قوتهم وعزتهم وسعادتهم في الدارين نتحدث عن أثر الصلاة والزكاة والصوم والحج في جمع كلمة المسلمين.

أولاً : الصلاة وأثرها:  

الصلاة هي الفريضة الأولى بعد الإيمان بالله ورسوله، وهي عماد الدين، من وفق إليها، وأعين عليها، فهو الموفق السعيد ومن حرم منها فهو الشقي البعيد، والصلاة التي نقصد الحديث عنها هي التي يخشع فيها صاحبها، ويحافظ على شروطها وآدابها، لا يقتصر دورها على أجر يثاب عليه المؤمن، وعذاب ينجو منه، وإنما تحفظه، وتنفي عنه الشرك الظاهر والخفي، وتعود به إلى صفوف المتواضعين إن كان فيه شيء من الكبر، وترقى به إلى درجة الأعزاء إن كان فيه شيء من الذلة والخنوع، فالحاكم والمحكوم، والرئيس والمرؤوس، وأصحاب الثروة والقوة، والنفوذ والسلطان، والذين ليس لهم من ذلك شيء، كل هؤلاء متساوون في الوقوف بين يدي الله والإقبال عليه، لا فضل لأحد منهم على أحد، إلا بمقدار ما في قلبه من تقوى، وما تثمره هذه التقوى من خيرات وما تحجز عنه من موبقات، فكل أعمال الصلاة ترجع الأمر كله لله، يقف المصلون جميعا بين يدي ربهم يأتمون بإمام واحد كأنهم بنيان مرصوص، يعلنون الله أكبر، وإنها لنعم الكلمة التي تفتح بها تلك العبادة، إنها إعلان بأن الله أكبر من كل



شيء ففي هذه الكلمة نفي للخوف والتردد، وإبعاد لشبح الهلع والفزع والجبن لذلك كان المؤمنون هم الذين يحققون الحكم التي يمكن أن تثمرها هذه الصلاة.

الزكاة وفضلها:

لعل من نافلة الحديث أن نقول: إن المال مهم غاية الأهمية للأفراد والجماعات، وأنه قوام الحياة، وأساسها، وعليه تقوم النهضات، وتتقدم الحضارات، به صيانة الحرية، وقوة الشوكة، والعزة والمنعة، فذلك أمر واضح، لا يحتاج إلى بيان، ويكفي أن يصفه القرآن الكريم بأنه قيام الحياة، وينصح بالتوسط فيه إن ملكه المرء فلا يسرف حتى يقف عاجزا عن التصرف، ولا يقتر حتى يتعرض للسخط والملامة قال تعالى: )وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً، ويقول جل شأنه: ) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ، ويثني على فريق من عباده بالتوسط في النفقة بين الإسراف والتقتير فيقول سبحانه: ) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً 


ولما كانت للمال هذه الأهمية في إعداد العدة، وأخذ الأهبة، كان الجهاد بالمال مقدما في القرآن الحكيم على الجهاد بالنفس، قال الله تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ` تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ .



وكان للنفقة في سبيل الله امتيازها عن الإنفاق في وجوه الخير الأخرى بزيادة أجرها، وكثرة أضعافها قال سبحانه: ) مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ، ثم كان للمال الأهمية البالغة في دفع الحاجات، وتفريج الكربات بإطعام الجائع، وكسوة العاري، وفك ضائقة المحتاج، فإن الله تعالى أوصى بالبذل في هذه الوجوه، وفرض من ذلك نصيبا معروفا في أموال الأغنياء يرد على الفقراء وسمي ذلك زكاة تارة وصدقة تارة، مشيرا بهذه الأسماء، إلى أمور اتسم بها البذل والإنفاق في الإسلام، لأن الزكاة لغة: التطهير والنماء.

ومن فضائل الزكاة ما يلي:

1_ إنها تغرس في نفس المؤمن فضيلة السخاء وتطهر نفسه من رذيلة الشح فيفوز برضا الله ويسعد بتوفيقه ) وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .


2_ الزكاة فيها سدّ لحاجة الفقراء وتفريج لكربة الغارمين وتيسير لأبناء السبيل وعون على المصالح العامة.


3_ إنها تخرج الأضغان من قلوب البائسين وحقدهم على الأغنياء المترفين وتملأ قلوبهم بمحبتهم وتمنعهم من الإساءة إليهم وبذلك يسود الأمن وبذلك تكون الألفة والإخاء.


4_ الزكاة فيها تطهير للمال من الشر ففي الحديث الشريف "إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره"


_ الزكاة ضمان اجتماعي لأن الإسلام يأبى أن يكون في مجتمعه من لا يجد القوت الذي يكفيه والثوب الذي يواريه والبيت الذي يؤويه فهذه ضرورات يجب أن تتوافر لكل من يعيش في ظل الإسلام الرحيم والمسلم مطالب بأن يحقق هذه الضرورات وما فوقها من جهده وكسبه فإن لم يستطع فالمجتمع يكفله ويضمنه والزكاة مورد أساسي لهذه الكفالة الاجتماعية التي فرضها الإسلام لفقراء والمساكين ) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ` لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ .


6_ الزكاة أمضى سلاح لمحاربة كنز الأموال ولإخراج النقود من مخابئها فالمال المخبوء تأكله الزكاة.



هذه هي بعض الفضائل التي تشتمل عليها هذه الفريضة ولو أن الناس أخرجوا زكاة أموالهم كما أمرهم ربهم لسدت حاجة الفقراء والمساكين ولعاش الناس إخوة متحابين متآلفين ولكن بعض الأغنياء بخلوا بزكاة أموالهم فمنعوها مستحقيها فكانوا سببا في انتشار الأحقاد والضغائن وحدوث كثير من المفاسد والجرائم.

الصيام وفضائله:

لا نعتقد أنه بوسعنا ولا بوسع بشر، مهما أوتي من علم، ورزق من حكمة أن يحيط علما بأسرار الله التي تضمنتها العبادات التي شرعها، والشعائر التي وضعها، ولولا أن الله -بمنه وكرمه- أوضح من ذلك جوانب، وأشار إلى أخرى، إيناسا للنفوس وجذبا للقلوب، ما كان لبشر أن يخوض في ذلك أو يتكلم فيه والتسليم معيار الإيمان، وميزان الإخلاص )إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ` وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ .


إن الفضائل النفسية، والفوائد الاجتماعية التي يثمرها الصوم أجل من أن تحصى، وإذا كان الصوم يثمر


التقوى، وعفة النفس واستقامة الجوارح ويقظة الضمير، ورحمة القلب، وخشية الرب، فإن هذه الفضائل، تنعكس على المجتمع كله، وتنشر بركتها عليه.


والتقوى التي جعلها الله غاية للصيام، والجُنَّة التي وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم الصوم يمكن أن يندرج تحتها كل ما أدركنا، وما لم ندرِك من حكم الصيام، فليس للتقوى حد تنتهي عنده، أو غاية تنتهي إليها، وكذلك



الجُنّة، قد تكون من التقصير والمخالفات، وقد يرقى بها صاحبها، فتكون من الشبهات، وقد يزداد رقيا فتصبح جُنَّة من الغفلات والخطرات.

أثر الصيام في بناء الأفراد:

1_ في الصيام ضبط للنفس وإطفاء لشهواتها فإنها إذا شبعت تمردت وسعت وراء شهواتها وإذا جاعت خضعت وامتنعت عما تهوى قال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه


أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فهو له وجاء"، فإنه يكسر من شهوة الشباب حتى لا تطغى عليه الشهوة فيصير إلى العنت والفاحشة فكان الصوم ذريعة إلى كف النفس عن المعاصي.


2_ إن الصيام وسيلة إلى إصلاح النفوس وتهذيبها إنه يربي في الإنسان فضيلة الصدق والوفاء والإخلاص والأمانة والصبر عند الشدائد لأن النفس إذا انقادت للامتناع عن الحلال من الغذاء الذي لا غنى لها عنه طلبا لمرضاة الله وخوفا من أليم عذابه فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحرام الغنية عنه فلا يكذب الصائم ولا يغدر ولا ينقض عهدا ولا يخلف وعدا ولا يكون مرائيا ولا خائنا فكان الصوم سببا في اتقاء المحارم وقوة العزيمة والتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل وإلى هذا كله أشار جل جلاله بقوله: ) لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .  


3 _ الصوم يدعو إلى شكر النعمة إذ هو كف للنفس عن الطعام والشراب ومباشرة النساء وكل هذا من جلائل نعم الله عز وجل على خلقه والامتناع عن هذه النعم من أول اليوم إلى آخره يعرف الإنسان قدرها إذ لا يعرف فضل النعمة إلا بعد فقدها فيعينه ذلك على القيام بشكرها، وشكر النعمة واجب وإلى هذا أشار جل وعلا بقوله: ) وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.


4_ الصيام يبعث في الإنسان فضيلة الرحمة بالفقراء والعطف على البائسين فإن الإنسان إذا ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات تذكر الفقير الجائع في كل الأوقات فيسارع إلى رحمته والإحسان إليه.


5_ في الصيام تمام التسليم لله وكمال العبودية له فالصائم يجوع ويعطش وأسباب الغذاء والري أمامه ميسرة لولا حب الله تعالى والرغبة في رضاه .


6_ الصيام يعود على البدن بالصحة ويكون سببا في شفاء كثير من الأمراض إذ فيه راحة للمعدة من عناء الهضم وتخليص للجسم من فضلاته الضارة وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول "صوموا تصحوا".



هذا هو الصيام لم يشرعه الله تعالى تعذيبا للبشر ولا انتقاما منهم وإنما شرعه إيقاظا لأرواحهم وتصحيحا لأجسامهم وتقوية لإرادتهم وتعويدا لهم على الصبر وتعريفا لهم بالنعمة وتربية لمشاعر الرحمة فيهم وتدريبا لهم على كمال التسليم لله رب العالمين.

الحج وفضائله:

الحج هو: الركن الخامس في الإسلام، وهو الفريضة التي تستوجب مفارقة المألوفات، والعادات، استجابة لرب العالمين، المسلم حين يستعد لتلبية هذه الدعوة بالإحرام يطهر باطنه بالنية الصالحة، والتوبة النصوح، ويطهر ظاهره بالاغتسال فإنه يعلن استجابته لأمر ربه مضاعفة مكررة، ولا يزال ذلك شعاره حتى يفرغ من حجه (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) .


وفي الإحرام التمرين العملي على فضيلة المساواة بين الناس وفيه كذلك تذكير لهم بما كانوا عليه، وبما سيصيرون إليه في الطريق الذي سبق هذه الحياة، والطور الذي سيعقبها وإنما هم فيه من زينة الدنيا وزهرتها إنما هو عارية مستردة"والحج تدريب عملي للمسلم على المبادئ التي جاء بها الإسلام فقد أراد الإسلام ألا يكون مبادئه، وقيمه الاجتماعية مجرد شعارات أو نداءات، بل ربطها بعباداته وشعائره، حتى تخط مجراها في عقل المسلم وقلبه، فهما وشعورا، ثم تخط مجراها في حياته سلوكا وتطبيقا، وقد رأينا في صلاة الجماعة كيف تنمي معاني الأخوة، والمساواة والحرية، وهنا في الحج نرى معنى المساواة في أجل صورة وأتمها، فالجميع قد طرحوا الملابس والأزياء المزخرفة، التي تختلف باختلاف الأقطار واختلاف الطبقات، واختلاف القدرات واختلاف الأذواق، ولبسوا جميعا ذلك اللباس البسيط- الذي هو أشبه ما يكون بأكفان الموتى- يلبسه الملك والأمير، كما يلبسه المسكين والفقير، وأنهم ليطوفون جميعا بالبيت، فلا تفرق بين من يملك القناطير المقنطرة، ومن لا يملك قوت يومه".


وفي الحج ترى معنى الوحدة جليا كالشمس، وحدة في المشاعر، ووحدة في الشعائر، ووحدة في الهدف، ووحدة في العمل، ووحدة في القول لا إقليمية، ولا عصبية للون أو جنس أو طبقة، إنما هم جميعا مسلمون، برب واحد يؤمنون، وببيت واحد يطوفون، ولكتاب واحد يقرؤون، ولرسول واحد يتبعون، ولأعمال واحدة يؤدون، فأي وحدة أعمق من هذه وأبعد غورا؟.


والحج أكبر مؤتمر عالمي يجمع المسلمين من جميع أنحاء العالم جمعتهم رابطة الإسلام، ووحدت بينهم كلمة الإيمان"في هذا المؤتمر يلتقي رجال العلم، ورجال الإصلاح، ورجال السياسة، فما أجدرهم وقد التقوا على هدف واحد أن يتعارفوا، ويتفاهموا، ويتعاونوا على تدبير أفضل الخطط وأحسن الوسائل ليبلغوا الأهداف، ويحققوا الآمال".  


في هذا المؤتمر العالمي يتذاكر المسلمون خطبة نبيهم صلى الله عليه وسلم الجامعة على عرفه عام حجة الوداع والتي قد جاء فيها:



" ... وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنتي.. أيها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه، إن كل مسلم أخ للمسلم، وإن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمن أنفسكم اللهم هل بلغت؟ قالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد"

فضائل الحج :

إن في فريضة الحج كثيرا من الفضائل التي تسهم في تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة ومن هذه الفضائل ما يأتي:_


1 _ الحج غذاء روحي كبير تمتلئ فيه جوانح المسلم خشية وتقوى لله رب العالمين، ففي كل منسك من مناسكه غذاء للروح فما الإحرام إلا تجرد من شهوات النفس والهوى وحبس للنفس عما سوى الله عز وجل وحث على التفكير في عظمة الله جل جلاله وحث على تذكر الموت والاستعداد له بالعمل الصالح فالحاج في لباس إحرامه يذكر بالميت في أكفانه، وما التلبية إلا استجابة وذكر وطاعة وامتثال، وما الطواف بعد التجرد إلا استحضار لعظمة الله تعالى حول بيته، وامتثال لأمره ) وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ .


وما السعي بين الصفا والمروة إلا تردد بينهما التماسا لرحمة الله تعالى وطلبا لمغفرته، وما الوقوف بعرفة إلا بذل للمهج في الضراعة إلى الله بقلوب مملوءة بالخشية وأيد مرفوعة بالرجاء وألسنة لاهجة بالدعاء وآمال صادقة في أرحم الراحمين، وما الرمي بعد ذلك إلا رمز لاحتقار عوامل الشر ونزغات الشيطان، وما الذبح إلا إراقة للدم الذي أمر الله به أن يراق ورمز للتضحية والفداء، قال تعالى: ) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.


2_ في الحج تدريب على ركوب الأخطار وتحمل المشقات ومفارقة الأهل والتضحية بالراحة والدعة في الحياة الرتيبة بين الأهل والأصحاب.


3_ في الحج تدريب للمسلم على المبادئ الإسلامية العالية التي جاء بها الإسلام ففي وحدة مظهر الحجاج في إحرامهم معنى المساواة في أجلى صورها وأتمها.


4_ في الحج ترى معنى الوحدة الإسلامية جليا كالشمس فشعور المسلمين فيه واحد وشعائرهم واحدة لا إقليمية ولا عنصرية ولا عصبية للون أو جنس أو طبقة فكلهم مسلمون يؤمنون برب واحد ويطوفون ببيت واحد


5 _ الحج مظهر من مظاهر السلام فأرض الحج هي البلد الحرام والبيت الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا، ومن دخله كان آمنا، إنها منطقة أمان شمل الطير في الجو والصيد في البر والنبات في الأرض فهذه المنطقة لا يصاد صيدها ولا يروع طيرها ولا حيوانها ولا يقطع شجرها ولا حشائشها .


6 _ الحج مؤتمر إسلامي عظيم فهناك يجد المسلم إخوانا له في الدين من قارات الدنيا الخمس اختلفت أقاليمهم وألوانهم ولغاتهم وجمعتهم رابطة الإيمان والإسلام.


فما أجدر المسلمين أن ينتفعوا من هذا المؤتمر السنوي بما يعود عليهم بالخير في أمر دينهم وأمر دنياهم )لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم .



هذه هي بعض الفضائل التي تشتمل عليها العبادات، وهذه الفضائل لا تحصل للعابد إلا إذا أسس عبادته على التوحيد بأن يصرف كل هذه العبادات لله وحده وأن يحسن أداءها بحيث يأتي بها على الوجه الذي شرعه الله تعالى على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم([33]).





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

زوار