الاثنين، 17 نوفمبر 2014

علو الهمة




                                            علو الهمة 

                                                












اهتمام الإسلام بخلق علوّ الهمَّة
اهتمَّ الإسلام بعلوِّ الهمَّة وحضَّ عليه، وحثَّ المسلمين على التحلِّي بهذا الخلق الطيب، ووجَّههم إلى طريق اكتسابه، وحرص على تربيتهم عليه وتنوعت الآيات والأحاديث الدالة على ذلك، وكثرت مظاهر اهتمام الإسلام به، ويمكن توضيح ذلك في النقاط الآتية:
1- إنَّ القرآن قرن بين الإيمان والعمل كما في قوله تعالى: }إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ{ [العصر: 3] والعمل هو الظاهرة المادية لعلوِّ الهمَّة في النفس؛ لأنه هو التحرُّك  الجاد الذي تُبذل فيه الطاقات لتحصيل أيِّ غاية من الغايات.
2- إنَّ الإسلام حثَّ على ترقية غايات المسلمين، وهذا إعلاء لهممهم وارتفاع بها عن الدنايا، وأخذ بها  إلى معالي الأمور.
3- إنَّ الإسلام وجَّه المسلمين لكسب أرزاقهم عن طريق الكدح والعمل والمشي في مناكب الأرض حتى يعفَّ الإنسان نفسه ويستغني عن غيره، ووجَّههم في المقابل إلى الترفُّع عن مسألة الناس ما لم تدع الضرورة إلى ذلك، وعرَّفهم أنَّ اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى .. قال r: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي الجبل، فيجيء بحزمة الحطب  على ظهره، فيبيعها يكفَّ الله بها وجهه خيرٌ من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه»([1]) .
4- ومنها أنه حثَّ المسلمين على التنافس في فعل الخيرات، والتسابق إلى معالي الأمور ورفيع المنازل، وعودهم على الجد في العمل والقيام به بهمَّة ونشاط .. قال تعالى: }سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ{
تعريف علو الهمَّة
الهمَّة:
مأخوذة من «الهم»، والهم: ما همَّ به من أمرٍ ليُفعل، والهمَّة هي الباعثة على الفعل، وتوصف بعلوٍّ وسفولٍ، فمن الناس من تكون همَّته عاليةً علوَّ السماء، ومنهم من تكون همَّته قاصرة دنيئة سافلة تهبط به إلى أسوأ الدرجات.
وعلو الهمَّة:
هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وطلب المراتب السامية، واستحضار ما يجود به الإنسان عند العطية، والاستخفاف بأوساط الأمور، وطلب الغايات، والتهاون بما يملكه، وبذل ما يمكنه لمن يسأله من غير امتنانٍ ولا اعتدادٍ به.
وعرَّف ابن القيم رحمه الله علو الهمَّة فقال:
«علو الهمَّة ألاّ تقف – أي النفس- دون الله، ولا تتعوَّض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه، ولا تبيع حظَّها من الله وقُربه والأُنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيءٍ من الحظوظ الخسيسة الفانية».
فالهمَّة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور، لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإنَّ الهمَّة كلَّما علت بعدت  عن وصول الآفات إليها وكلَّما نزلت قصدتها الآفات من كلِّ مكان.
أصناف الناس في شأن الهمَّة
يتفاوت الناس في هِمَمهم، فمنهم من تسمو همَّته، ومنهم من تدنو همَّته، ومنهم من هو بين بين .. ويمكن تقسيم الناس في شأن الهمَّة إلى أربعة أصناف:
الأول- صنف يشعرون أنَّ لديهم قُدرة على عظائم الأمور، ولديهم أهدافًا ومطالب سامية، وعندهم همَّة عظيمة جعلوها في تحصيل هذه المطالب والأهداف، وهذا الصنف من يُسمَّون «عظيمي الهمَّة».
والثاني- صنفٌ لديهم قُدرة على عظائم الأمور، ولكنهم يبخسون نفوسهم فيضعون همَّتهم في سفاسف الأمور وصغائرها ودنياها، وهذا الصنف من يُسمَّون «صغيري الهمَّة».
والثالث- صنف ليس لديه قدرة على معالي الأمور وعظائمها، ويشعر أنه لا يستطيعها وأنه لم يُخلق لها، فيجعل همَّته وسعيه على قدر استعداده، وهذا الصنف بصيرٌ بنفسه، متواضعٌ في سيرته.
والرابع- صنف لا يقدر على عظائم الأمور، ولكنه يتظاهر بأنه قويٌّ عليها، مخلوق لها، وهذا الصنف يُسمُّونه «فخورًا» وإن شئت فسمِّه «متعظمًا».
قالوا عن الهمَّة
1- قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا تصغرنَّ همّتكم؛ فإني لم أرَ أقعدَ عن المكرمات من صغر الهمم».
2- وقال ممشاد الدينوري: «همَّتك فاحفظها، فإنَّ الهمَّة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همَّته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من الأعمال».
3- وقال ابن حبَّان البستي: من لم يكن له همَّة إلاَّ بطنه وفرجه عُدَّ من البهائم، والهمَّة النبيلة تبلغ صاحبها الرتبة العالية.
4- وقال الإمام مالك رحمه الله: «عليك بمعالي الأمور وكرائمها، واتقِ رذائلها وما سفَّ منها، فإنَّ الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها».
5- وقال أحمد الدرعي: «كن رَجُلاً رِجله في الثرى وهمُّه في الثريا، وما افترقت الناس إلاَّ في الهمم، من علت همَّته علت رُتبته، ولا يكون أحدٌ إلا فيما رضيت له همَّته».
6- وقال عبد القادر الجيلاني لغلامه: «يا غلام لا يكن همُّك ما تأكل وما تشرب وما تلبس وما تنكح وما تسكن وما تجمع، كلُّ هذا همُّ النفس والطبع، فأين هم القلب؟.. همُّك ما أهمَّك، فليكن همُّك ربك  عز وجل وما عنده».
7- وقال ابن القيم رحمه الله: «النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلاَّ بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار».
8- وقال أيضًا: «من علت همَّته وخشعت نفسه، اتصف بكلِّ جميل، ومن دنت همَّته وطغت نفسه، اتصف بكلِّ خُلق رذيل».
أسباب ضعف الهمم وانحطاطها
لضعف الهمم وانحطاطها ودنوِّها أسباب كثيرة، نذكر منها على وجه الاختصار:
1- الوهن:
وهو كما فسره النبي r: «حب الدنيا وكراهية الموت»([2]) .
أما حب الدنيا: فهو رأس كلِّ خطيئة، وهو أصل التثاقل إلى الأرض، وسبب استئثار الشهوات والانغماس في الملذَّات والتنافس
- وجود الإنسان في بيئة أو مجتمع ساقط الهمَّة:
فالبيئة التي تحيط بالإنسان لها دورٌ كبيرٌ في  علوِّ همَّته أو سفولها وانحطاطها، فقد تكون سببًا في ترقيه وسموِّ همَّته وتشجيعه على طلب المعالي والعظائم، وقد تكون سببًا في عكس ذلك كالبيئة بالنسبة للنبات، فهي، إن كانت صالحة نما النبات وترعرع وإن كانت سيئة ضعف ومات.
- ضعف التربية المنزلية أو فسادها:
وهذا السبب أخصُّ من سابقه، وذلك لأنَّ البيت هو المدرسة الأولى التي يتربَّى فيها الولد قبل أن تُربِّيه المدرسة أو البيئة وهو مدينٌ لوالديه في سُلوكه المستقيم/ كما أنهما مسئولان عن فساده وانحرافه .. والبيت الذي يُربَّى أولاده على الميوعة والترف والإسراف والخوف والجبن والهلع والفزع لا يمكن أن ينشأ أولاده على علوِّ الهمَّة، أو يتربَّوا على معالي الأمور، والعكس صحيح.
4- الاستجابة للصوارف الأسرية:
من زوجة وأولاد، و استغراق الجهد في التوسُّع في تحقيق
مطالبهم، فالزوجة والأولاد قد يكونون فتنةً للرجل حيث يصدُّونه عن العبادة وعن طلب العلم والسعي إلى المعالي ويثنونه عن مراده، وذلك بسبب كثرة طلباتهم وتخذيلهم له، ولهذا قال ربنا عز وجل
- الكسل والفتور:
وهما عائقان خطيران، ولا بدَّ للمرء من البعد عنهما لأنهما قاتلان للهمَّة مُذهِبان لها، وقد قيل: «ما لزم أحد الدعَّة إلا ذلَّ، وحُب الهوينى يُكسب الذل، وحب الكفاية أي الاكتفاء بما عليه وعدم الرغبة في الارتقاء- مفتاح العجز».
6- صحبة البطالين ومرافقة ساقطي الهمَّة:
الذين كلما هم الإنسان جذبوه إليهم وقالوا له: «أمامك ليلٌ طويلُ فارقُد» والطبع يسرق منهم، والمرء يتأثر بعادات وأخلاق جليسه، وصُحبة هؤلاء تعُوق المرء عن همَّته، وتُثنيه عن عزيمته، وتحول بينه وبين طلب المعالي، وقد
7- كثرة الزيارات للأقارب والأصحاب:
وإهدار الوقت في فضول المباحات، وفيما لا يعود بمنفعة أو فائدة في الدنيا والآخرة، فهذا مما يصرف الإنسان عن طلب المعالي،
أسباب الارتقاء بالهمَّة
هناك أسباب كثيرة ووسائل متعدِّدة للارتقاء بالهمَّة، وهي في الحقيقة الوجه الآخر لأسباب انحطاط الهمَّة .. وفيما يلي جُملة منها:
1- التربية الصحيحة من قبل الوالدين:
فإنَّ الولد الذي يحرص والداه على تربيته على الخصال الحميدة والأخلاق الفاضلة، والخلال الكريمة مع إبعاده عن مساوئ الأخلاق ومرذول الفعال سيشبُّ بإذن الله عالي الهمَّة، محبًّا لمعالي الأمور، متصفًا بمكارم الأخلاق، كارهًا لسفاسف الأمور.
ومن أراد أن يعرف أثر الوالدين في نفوس الأولاد فليتتبع حال سلفنا الصالح الذين خرَّجوا لنا أفضل الأجيال، وقدَّموا لنا أ عظم الأبطال، فمن كان وراء عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد وعبد الله بن الزبير؟ ومن الذي صنع البخاري وابن تيمية وابن القيم وغيرهم؟ إنهم الآباء العظماء والأمهات الفضليات.
2- وجود المربين الأفذاذ والمعلمين القدوة:
الذين يتَّصفون بعلوِّ الهمَّة وحُسن الخلق، ويستشعرون عظم المسئولية وضخامة الأمانة، ويحرصون على بثِّ رُوح التنافس بين طلابهم، وتربيتهم على طلب المعالي والترفُّع عن الدنايا وعزَّة النفس وقوة العزيمة، ويؤثِّرون فيهم بالفعل قبل القول.
3- العلم والبصيرة:
فالعلم يصعد بالهمَّة، ويرفع طالبه عن حضيض التقليد، ويورث صاحبه الفقه بمراتب الأعمال؛ فيتَّقي فضول المباحات التي تشغله عن التعبُّد، ويبصره بحِيَل إبليس وتلبيسه عليه كي يحول بينه وبين ما خُلق له، ويحثُّ على طلب المعالي والترفع عن الدنايا.
4- مجاهدة النفس ومحاسبتها:
 فبدون ذلك لا يتحقَّق شيء ولا يخطو المرء خطوة للإمام ولهذا قال ربنا عز وجل: }وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ{ [العنكبوت: 69]
ولا شكَّ أنَّ مجاهدة النفس وحرمانها من بعض ملذَّاتها ورغباتها وعوائدها، وإلزامها بأعمال تحتاج جهدًا ومشقَّة، ومحاسبتها على التقصير، وأخذها بالجدِّ والحزم، لا شكَّ أنَّ هذا يقوِّي الإرادة، ويبعث
6- تذكُّر الموت وقصر الأمل:
فهذا يُوقظ الهمَّة، ويبعث الجد والاجتهاد، ويدفع إلى العمل للآخرة، والتجافي عن دار الغرور وتجديد التوبة وإيقاظ العزم على الاستقامة .. يقول ابن القيم رحمه الله:
«صدق التأهُّب للقاء الله- ومنه تذكر الموت والاستعداد له- من أنفع ما يكون للعبد وأبلغه في حصول استقامته، فإنَّ من استعدَّ للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها، وخمدت من نفسه نيران الشهوات، وأخبت قلبه إلى الله وعكفت همَّته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته واستحدثت همَّة أخرى وعلومًا أخر، وولد ولادة أخرى تكون نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمِّه.. أ.هـ.
7- الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله:
فهو المسئول وحده أن يقوِّي إرادتنا، ويعلي همَّتنا ويرفع درجاتنا .. وبالدعاء تشرف النفس وتعلو الهمَّة، ولهذا كان من دعاء النبي r: «اللهم أعنِّي على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك» .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

زوار