الحركة الاستعمارية
ليست حديثة العهد، بل هي قديمة قدم التاريخ المكتوب، وإن كانت لم تعرف بهذا الاسم إلا
في العصر الحديث ، فالاستعمار يعني استيلاء دولة على ممتلكات دولة وتقاليدها وتاريخها
ما استطاعت والاستبداد، ومحاولة تغيير ثقافة الدولة المغلوبة وتقليدها وتاريخها ما
استطاعت إلى ذلك سبيلا ، وقد أثرت تلك الحركة تأثيرا قويا في السياسة الدولية في هذا
العصر.
ولفهم وسائل وأساليب
الاستعمار في تزييف وتشويه تاريخ الأمم والشعوب التي نكبت به بصفة عامة والدول الإسلامية
بصفة خاصة، لا بد لنا من الإلمام بأقوال دهاقنة الاستعمار من رجال السياسة والفكر في
أوربا، ممن كانت لأقوالهم وأفعالهم أكبر الأثر في دفع حركة الاستعمار وفي تطورها وتوجيهها
الوجهة التي يريدونها ، فمن هذه الأقوال ندرك زيف ادعاءاتهم منذ بدايات ومقدمات الحركة
الاستعمارية ، ومن المنطقي أن تؤدي المقدمات الزائفة إلى نتائج زائفة ، فليس من العسير
على هؤلاء أن يشوهوا تاريخ الشعوب التي حكموها ليبرروا وجودهم رغم أنف تلك الشعوب.
أما عن الأساليب
والدوافع التي تذرعت بها الدول الكبرى لتبرير استعارها - غير الأسباب الحقيقية التي
تهدف إلى التملك والتسلط والسيطرة على مقدرات الشعوب سياسيا واقتصاديا وثقافيا، واستنزاف
مواردها لخدمة ولرفاهية شعوب تلك الدول الكبرى - فهي متعددة، فمنها من اعتبرها مسألة
كرامة أو هيبة ( Prestige) مثل بنجامين دزريلي ( Benjamin Disreali) (1) وزير خارجية بريطانيا ورئيس وزرائها في خطابه
الذي ألقاه في ( Crystal
Palace)
في عام 1289هـ/ 1872 م وكأن هيبة الدولة وكرامتها لن تصبح حقيقة واقعة إلا باستبعاد
غيرها من الشعوب.
ولم يكن دزيلي
وحده - وقتئذ- يفتخر بعظمة الإمبراطورية البريطانية وإنجازات بريطانيا الاستعمارية
، بل شاركه في ذلك كثيرون من رجال السياسة والفكر أمثال شارلز دلكه (Charles Dilke) (2) ، جيمي فرود ( James Froude) (3) وجون
سيلي ( John Seeley) (4)
،وتوماس كارليل Thomas
Caryle)) (5) ، وشارلز كنجلسي ( Charles Kingsley) (6)
،وجون رسكن ( John
Ruskin) (7) ، وألفريد تنيسون ( Alfred Tennyson) (8)
، ولورد سولسبري (Lord
Salibryry) (9) ،وجول يري
Jules Ferry) ) (10) ،وسيسيل رودس ( Cecil Rodes) (11) وهوراشيو كتشنر ( Herbert Kitchener ) (12) ،وغيرهم.
ومن الادعاءات
الزائفة لتبرير الاستعمار ادعاؤهم بأن للرجل الأبيض رسالة عليه أن يؤديها للشعوب المختلفة،
وتشدق بهذا القول الكثيرون من رجال السياسة والفكر، ويعبر عن هذا الرأي الكاتب وياث
( Wayath) في كتابه « Ethics Of Empire
» فيقول : " إن واجبا محددا قد عينه القدر لنا - وليس لغيرنا-
وهو أن نحمل مشعل النور والحضارة إلى داخل الأماكن المظلمة في العالم، وأن نلمس عقول
أبناء آسيا وإفريقيا بالقيم الأخلاقية النابعة من أوربا " (13) وهذا القول فيه
تجن على تلك الشعوب، فالقيم الأخلاقية لم تنشأ في أوربا وحدها، وإنما نزلت بها عن طريق
القهر والبطش.
ويرد على هذا الادعاء
أحد كبار المؤرخين الفرنسيين المعاصرين وهو الأستاذ بيبر رنوفن ( Pierre Renouvan) بأن هذا القول "هو دائما مجرد شكل بسيط
لتغطية المصالح أو الأطماع"(14).
كذلك روج بعض الكتاب
والمفكرين الاجتماعيين لحركة الاستعمار بالمناداة بنظرية "الصراع من أجل البقاء"
( Struggle For Existence) ،وعبر
عن هذا الاتجاه رويارد كبلنج (Ruyard Kipling) (15) في عام 1308/ 1890 م؛ كما دعا هؤلاء إلى نظرية
أخرى وجدت صداها في الأوساط الاستعمارية وقتذاك، ألا وهي نظرية "البقاء للأصلح"
( Suevival Of the Fittest) ، وقد عبر عنها كبلنج بقوله " بأن الاستعمار
هو صورة من صور الكفاح من أجل الحياة، حيث ينتصر الشعب الأكثر استعدادا من الناحية
الجسمانية والفكرية "(16) .
وفي هذا المعنى
أيضا يذكر الكاتب كارب بيرسون (Karl Vbreason) (17)
"أن التاريخ يطلعني على طريقة واحدة لا
يوجد غيرها، أدت إلى قيام حالة حضارية هي الصراع بين الأجناس، والبقاء للعنصر أو الجنس
الأصلح في الجسم والعقل...إن طريق التقدم تغطية أشلاء الأمم التي تبيد ..إن الشعوب
التي بادت، هي في حقيقتها الواضحة للعيان الدرج الذي رقاه الجنس البشري صاعدا نحو الحياة
الفكرية الراقية والحياة الوطنية الراسخة التي نحياها اليوم".
وكأن البشرية في
عرف هؤلاء الكتاب لن تتقدم إلا على أشلاء الشعوب الضعيفة التي كانت ضحية الاستعمار
والمستعمرين.
كذلك حمل بعض المفكرين
لواء نظرية " التطور الاجتماعي" التي أدت إلى ظهور فكرة تقسيم العالم إلى
مجموعات كبيرة، فينقسم إلى ثلاثة أو أربعة شعوب كبرى صالحة للبقاء، وعلى الشعوب الضعيفة
أن تموت أو تفنى أمام الدول القوية أو أن تخضع لها.
بل لقد بلغ الإسفاف
والزيف في تبرير الاستعمار أنه - نسب - حاشا لله- إلى المشيئة الإلهية فيقول روزبري
( Rosebery) ( 1264-1349هـ 1847- 1929م) وهو من كبار حزب الأحرار في
بريطانيا، "وأعتقد أن الإنجليز بطارقة العالم، وأنهم امبرياليون ( مستعمرون)
- لا لأنهم أرادوا ذلك- ولكن لقانون عالمي إلهي يوجههم إلى أداء ذلك الواجب"
(18) .
والحقيقة التي
لا مراء فيها أن الطمع في ثروات الشعوب الضعيفة ، والاستئثار بها لرفاهية شعوب الدول
المتعدية كانت المحرك الأساسي لحركة الاستعمار ، ويعبر عن هذا الرأي بصراحة تامة السير
أوستن تشمبرلن (Sir
Joseph Austen Chamberlin ) ) (19) فيقول : " هل هناك من يعتقد وهو في كامل
وعيه أن السكان المكتظين في هذه الجزيرة ( يقصد بريطانيا ) يستطيعون أن يعيشوا ليوم
واحد لو انقطعت عنا المناطق العظيمة التابعة لنا ، التي تتجه إلينا طلبا للحماية والمساعدة
، والتي تشكل الأسواق الطبيعية لتجارتنا "(20) .
ورغم الصراحة التي
يتصف بها هذا القول من مسئول بريطاني كبير ، إلا أن الزيف واضح في قوله إن تلك البلاد
قد التجأت إليهم طلبا للمساعدة والحماية ،فالحقيقة أن كل البلاد التي خضعت للاستعمار
قد وقعت بصورة أو بأخرى في قبضته ، نتيجة الغزو المسلح تارة أو التهديد والإجبار تارة
أخرى ، ولم برغبتها الحرة على أي حال .
بعد هذا العرض
الموجز لما أوردناه من آراء وأفكار ، جاءت على ألسنة كبار رجال السياسة والفكر ، يتضح
لنا أن الاستعمار قام أساسا على زيف في القول والعمل ، وأن القائمين على أمره لم يتورعوا
عن تزييف أسبابه ، فهم بالتالي لن يتورعوا عن تشويه وتزييف تاريخ الأمة الإسلامية التي
خضعت لحكمهم ، كي يتمشى مع أهدافهم ومصالحهم . والأمثلة على ذلك كثيرة . ولكنني سأتناول
بعضها على سبيل المثال - لا الحصر - إذ إن المقام لا يسمح بغير ذلك أولا - موفق المؤرخين
الأوربيين من الدولة العثمانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق