الاثنين، 17 نوفمبر 2014

الاستعمار وتشويه الأمة العربية والإسلامية




الاستعمار وتشويه الأمة العربية والإسلامية

 

 


مما لاشك فيه أن تاريخ الدولة العثمانية قد تعرضت للكثير من الدرس والتشويه عبر تاريخها الطويل ، ويرجع ذلك منذ تأسيس الدولة إلى عاملين رئيسيين :


الأول أن العثمانيين المسلمين قد حلوا محل الدولة التي عمرت أكثر من ألف عام ، وكانت دول أوربا تطمع في أن تحل محلها ، إذا كان لابد لها من الزوال ، لاسيما روسيا التي كانت تدين بالديانة المسيحية على المذهب الأرثوذكس ، وهو مذهب الدولة البيزنطية نفسه .


والعامل الثاني أن الدولة العثمانية هددت دول أوربا فترة طويلة ووصلت جيوشها إلى أبواب مدينة فيينا ، وبعد أن أخضعت لحكمها دول شرق أوربا المسيحية ، ودخلت جموع من شعوبها في الإسلام . كما أنها وقفت ضد أطماع البرتغالين في الجزبرة العربية ، وأغلقت البحر الأحمر في وجه السفن المسيحية حماية للأراضي المقدسة في الحجاز من الاعتداء ، وظهرت جزر البحر المتوسط من فرسان القديس يوحنا الذين دأبوا على مهاجمة سفن المسلمين ونهيها ، وحمت دول شمال إفريقيا من الهجمات الصليبية من قبل الإسبان والبرتغاليين ، فحفظت له إسلامه وعروبته ، ورفعت لواء الإسلام في وجه دول أوربا المسيحية ستة قرون ، ولذا أخذت الحروب التي نشأت بينها وبين الدول الأوربية طابعا دينيا صليبيا (21) فكان لابد والحالة هذه أن ينعكس شعور الكره والتعصب على معظم الكتاب الأوربيين كراهية للدولة وللإسلام ،لاسيما و أنهم ربطوا بين الدولة العثمانية والإسلام ، فأي انتصار للعثمانيين هو انتصار للإسلام وهزيمة للمسيحية(22) .


وقد وجدت الشعوب التي خضعت لأول مرة في تاريخها لحاكم مسلم أن تتخلص من الحكم عندما ظهرت بوادر الضعف على الدولة العثمانية ، فبدأت الحركات القومية في الظهور بتحريض وتشجيع من الدول الأوربية تحقيقا لمطامعها في الدولة (23) وخصوصا روسيا التي كانت تعمل على نشر مبادئ حركة الجامعة الصقلبية ( السلافية ) الكبرى ، وشعوب البلقان الخاضعة للحكم العثماني من الصقالبة أيضا ، فكانت روسيا تمالئهم بإطلاق اسم "الأخوة الصغار " (24) عليهم .


بل ادعت لنفسها الحق في حمايتهم كصقالبة صغار من عدوان الدولة العثمانية ، وفي حقيقة الأمر فإن تلك الشعوب قد تمتعت بامتيازات كثيرة وبنوع من الحكم الذاتي لم تنله الشعوب الإسلامية .


وقد تركز تشويه تاريخ الدولة العثمانية بشكل واضح في فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني( 1293 - 1327 هـ/ 1876 - 1909 م) الذي تولى الحكم في أحرج فترة من تاريخ الدولة ، إذ كانت الدولة قد بلغت شأوا بعيدا من الضعف، واكبته ذروة الأطماع الاستعمارية والصهيونية في ممتلكاتها ، ففي مستهل عهده شنت روسيا على الدولة الرب الروسية التركية ( 1294 - 1295 هـ/ 1877 - 1878 م) وفرضت عليها معاهدة برلين(1295 هـ/1878 ) التي قطعت أجزاء واسعة من ممتلكات الدولة في أوربا ، والتي ترتب عليها احتلال فرنسا لتونس عام 1298 هـ/ 1881 م ) واحتلال بريطانيا لمصر عام 1299 هـ/ 1882 م ،ثم احتلال فرنسا لمراكش عام 1330 هـ/ 1912 م)(25) .


وكان من أسباب مهاجمة الكتاب الأوربيين للدولة العثمانية في ذلك الوقت تبنى السلطان عبد الحميد حركة (الجامعة الإسلامية ) التي كانت ترمي إلى توحيد صفوف المسلمين حول السلطان العثماني للدفاع عن الإسلام والمسلمين ضد أطماع الدولة الأوربية الكبرى ، وحركة الجامعة الإسلامية في حقيقتها رد فعل للحركتين العدوانيتين اللتين عاصرتاها - وإن اختلفت عنهما في الأسلوب وفي الهدف والغاية .


 


فإذا كانت الحركة الأولى وهي حركة الجامعة الجرمانية حركة عنصرية هدفها تكوين وحدة سياسية من العناصر الجرمانية للوقوف ضد أطماع حركة الجامعة الصقلية تحت زعامة روسيا في شرق أوربا من جانب وضد أطماع فرنسا من جانب آخر ، فإن حركة الجامعة الصقلية حركة عنصرية كذلك هدفها إثارة صقالبة شرق أوربا ووسطها تحت ستار تخليصهم من السيطرة العثمانية من جهة ومن النفوذ الألماني المتمثل في حركة الجامعة الجرمانية من جانب


آخر(26) .


ومن ثم ، فالحركتان الجرمانية والصقلبيية عدوانيتان، بينما حركة الجامعة الإسلامية حركة دفاعية هدفها وحدة المسلمين والدفاع عن كيانهم تحت زعامة الدولة العثمانية من أطماع الدول الأوربية ، وما كان ذلك يرضي الدول بحال من الأحوال .


ومن الموضوعات التي حاول معظم المؤرخين الأوربيين تشويه تاريخ الدولة العثمانية بها ، إسهامها في عزل البلدان العربية عن العالم الخارجي ، مما كان له أكبر الأثر في تأخرها ، ولكن الدارس لتاريخ الولايات العربية دراسة متأنية يرى أن هذا القول يفتقر إلى الصحة ، فالدولة العثمانية عقدت معاهدات تجارية مع معظم الدول الأوربية ، وكانت تلك المعاهدات تسري على جميع أجزاء الدولة بما فيها الولايات العربية ، كذلك نجد أن معاهدات الامتيازات الأجنبية قد أعطت للدول الأوربية صاحبة الامتيازات حرية التعامل مع تلك الولايات في مجالات كثيرة مما يدحض ما ذهب إليه المؤرخون من فكرة العزل (27) .


وكان لكتابات وليم ملنر ‘William Milne)r) (28) وغيره ممن عاصروا السلطان عبد الحميد الأثر الكبير في تشويه تاريخ الدولة العثمانية في تلك الفترة . وكذلك عاصر  السلطان عبد الحميد نشأة الحركة الصهيونية ومؤازرة الدول الكبرى لها، ومحاولاتها المستميتة بالسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين ، بالإغراء المادي تارة والتهديد تارة أخرى ، ووقوف السلطان من ذلك كله موقفا صلبا لا يلين محافظا على عروبة فلسطين ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، مما دفع دعاة الصهيونية وكتابها إلى مهاجمته وتشويه صورته أمام العالم الخارجي .


ثانيا - الحملة الفرنسية على الجزائر 1245 هـ/ 1830 م .


تمثل الحملة الفرنسية على الجزائر عام 1245 هـ/ 1830 م مثلا آخر من أمثلة تشويه تاريخ الشعوب الإسلامية ، إذ اتخذت فرنسا منن حادثة المنشة ( المروحة) سببا جوهريا لمهاجمة الجزائر دفاعا عن شرفها وكرامتها التي أهدرت (29)  ولم يكن هذا هو السبب الحقيقي للغزو ،فالتفكير في احتلال الجزائر سابق على هذه الحادثة بسنوات أرجعها عباس فرحات (30) إلى عام 1231 هـ/ 1815 م وفيها هزم نابليون بونابارت وفقدت فرنسا أجزاء واسعة من إمبراطوريتها ، تنازلت عنها لبريطانيا ، ومن ثم رأت فرنسا أن تستعيض عنها بدول المغرب العربي ولتكن البداية بالجزائر كنقطة انطلاق نحو الاستيلاء على المغرب بأكمله(31) .


والحقيقة أن قوة الجزائر البحرية قد ازدادت زيادة كبيرة في البحر المتوسط (32) وتمكنت بهذه القوة البحرية أن تحفظ التوازن في القوى في الحوض الغربي للبحر المتوسط و أن تحمي السفن الإسلامية فيه ، وذلك خلال القرون الثلاثة السابقة على الاحتلال الفرنسي لها . وكانت العلاقات بينها وبين فرنسا في مد وجزر ، فأحيانا يسودها السلام بناء على اتفاقات ، و أحيانا أخرى تهاجم كل منهما سفن الأخرى في البحر المتوسط ، وكان الكتاب الفرنسيون يطلقون على إغارات السفن الجزائرية بأنها أعمال قرصنة (33) ولكنهم يطلقون على ما يقومون به ضد السفن الجزائرية بأنه دفاع عن النفس .


 


وعلى أية حال كانت فرنسا حريصة على استمرار علاقتها مع الجزائر ، فكلما تعكر صفو تلك العلاقات حاولت إعادتها إلى صفائها مرة أخرى ، حرصا منها على سلامة سفنها ، وتحقيقا لمصالحها الاقتصادية ، وحفاظا على امتيازاتها التجارية ضد منافسة الدول الأجنبية(34) .


واتصفت عملية الغزو الفرنسي للجزائر 1245 هـ/ 1830 م بالتعصب الديني من قبل فرنسا ، فيذكر الملك شارل العاشر - الذي حدث الغزو في عهده - بأنه لم يراع في هذه العملية سوى كراهية فرنسا للجزائر (35) .


لم تكن الكراهية وحدها هي الدافع للغزو ، فالمشكلات الداخلية التي تعانيها فرنسا وقتذاك كانت لها نصيب كبير في حكومة فرنسا إلى التفكير في القيام بمغامرة خارجية لتوجيه السخط الداخلي ، الذي قد يطيح بها ، إلى هذه المغامرة ، أولا وهي غزو الجزائر(36) .


 بل إن من جاءوا بعد شارل العاشر من الملوك ساروا في نفس الاتجاه ، وأكدوا عدم تخليهم عن الجزائر ، لأن في ذلك إغضابا للمسيحيين في كل مكان وهم الذين فرحوا بهذا الغزو وباركوه(37) . وإن تمسك فرنسا بالجزائر يعتبر تضحية منها في سبيل نشر الحضارة بين القبائل الجزائرية ، وحتى لا يقعوا في براثن استعمار  آخر كالاستعمار التركي (38) .


وفي هذا القول رجوع إلى ما سبق أن ذكرته في مقدمة البحث ألا وهو التذرع برسالة الرجل الأبيض وحرصه على نشر الحضارة والثقافة بين القبائل الجزائرية . ولكن الحقيقة تثبت عكس ما زعموه . فلو نظرنا إلى التعليم في الجزائر عند مجيء الفرنسيين إليها نجد أن عدد المدارس الابتدائية وحدها في مدينة الجزائر عام 1245 هـ / 1830 م بلغ مائة مدرسة (39) ، لم يبق منها في عام 1262 / 1846 - أي بعد الاحتلال الفرنسي بست عشرة سنة - سوى أربعة عشرة مدرسة (40). ضربنا هذا المثل بمدينة واحدة في الجزائر دون أن نذكر ما حدث في سائر المدن لأن هذا ليس موضوع دراستنا .


وعلى أية حال فإن نصف المؤسسات التعليمية قد اختفى من ولاية الجزائر في الفترة فيما بين عامي 1245 - 1265 هـ/ 1830 - 1850 م (41)  .وهذا يؤكد زيف ما ادعاه معظم الكتاب الفرنسيين من عدم وجود تعليم في الجزائر في العهد العثماني، وأن فرنسا هي التي عملت على نشره بعد احتلالها للبلاد .


ثالثا - مصر في   ظل الاحتلال البريطاني ( 1299 - 1332 هـ/ 1882 - 1914 م) .


ادعت بريطانيا على لسان ممثلها في مصر إيفلن بيرنخ ( اللورد كرومر) بعد الاحتلال عام 1299 هـ/ 1882 م بأن مهمتها في مصر هي العمل على تحسين حال الفلاح ورفع الظلم عن كاهله ، وأظهر صداقته للفلاحين وأطلق عليهم " أصحاب الجلابيب الزرقاء " وحاول التخفيف عليهم من بعض الضرائب .


وكان  الهدف من انتهاج تلك السياسة إزاء الفلاحين ، وهم يمثلون أغلبية شعب مصر ، ما قاموا به من دور بارز في مساندة الثورة العرابية نتيجة لسوء أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية ، وكثرة الضرائب ، وفرض السخرة ، واستبداد الحكام ، وطلبا في تحسين أحوالهم . وفي عهد الخديوي إسماعيل ( 1279 - 1296 هـ/1863 - 1879 م ) سرى في البلاد نوع من اليقظة والوعي ، وذلك لانتشار الصحف والمجلات ، ولتعاليم جمال الدين الأفغاني ، ونشاط تلاميذه ، وكان للفلاح نصيب منها ، ووجد الفلاحون في عرابي الأمل الذي يرتجى (42) ، لاسيما وأن أوضاعهم الاقتصادية الحادة التي مرت بالبلاد(43) .


وكان لخطورة الدور الذي قام به الفلاحون في الثورة أن عزمت سلطات الاحتلال على تصفية قوتهم والعمل على إضعافهم ، بل إن ما قاموا به قد أفزع كبار ملاك الأرض. ولذا وجدوا من مصلحتهم التعاون مع سلطات الاحتلال حفاظا على مصالحهم. ومن تم رأت بريطانيا ان تعتمد على طبقة كبار ملاك الأراضي الزراعية في تثبيت دعائم وجودها في مصر، وأن تربط مصلحتهم بمصلحتها. وبدأت تلك السلطات بتصفية كاملة للثورة في الريف المصري، فاعتقلت من الفلاحين ما يربو على 29.000 نسمة(44) .


كما قامت السلطات بفصل حوالي 250 من صغار ضباط الجيش من أبناء الفلاحين، وجردوهم من رتبهم جزاء عصيانهم - وبدأت تخيم على البلاد فترة من الظلام في أعقاب فشل الثروة، ونفي وسجن وتشريد القائمين بها.


ونظرا لتعارض مصالح هذه الطبقة مع مصالح السواد الأعظم من الفلاحين ، فقد آثرت سلطات الاحتلال الوقوف إلى جانب كبار ملاك الأرض في أحيان كثيرة مضحية بجمهرة الفلاحين، وهنا ظهر التناقض واضحا بين أقوال هؤلاء المحتلين وتصرفاتهم الفعلية، فأدرك الفلاحون خداع المحتلين.


ولما كانت مصر دولة مدينة للعديد من الدول والمؤسسات المالية الأجنبية أصبحت بريطانيا بحكم إدارتها للبلاد مسئولة أمامها عن سداد الديون وأقساطها، ولذا بدأت تعمل على زيادة مساحة الأرض الزراعية، وأن تتبع سياسة التخصص الاقتصادي بالاعتماد على الزراعة ولا سيما زراعة القطن (45) اللازم لمصانعها، أي أنها سخرت اقتصاد مصر لخدمة الاقتصاد الإنجليزي.


ومن ثم بدأت بإصلاح القناطر الخيرية سنة 1304هـ/ 1886م وأنشأت قناطر أسيوط عام 1321هـ/ 1902م وخزان أسوان في العام نفسه، وقناطر زفتى في العام التالي، فزادت بذلك مساحة الأراضي الزراعية في مصر من 4.758.000 فدان عام 1299هـ/ 1882م إلى 5.4000.000 فدان في عام 1323هـ/ 1905م(46).


وكان المستفيد الأول من هذه المشروعات بريطانيا أولا، ثم طبقة كبار ملاك الأراضي الزراعية، وحملة سندات الدين المصري(47) .


 بينما لم يستفد صغار الفلاحين شيئا يذكر، وذلك لكثرة الضرائب، وقلة إنتاجية الأرض واستبداد وظلم كبار ملاك الأراضي لهم.


حدث كل ذلك في الوقت نفسه الذي أخذ المعتمد البريطاني في مصر يتشدق بصداقته للفلاحين أصحاب الجلاليب الزرقاء، وبأوضاعهم التي تحسنت كثيرا في ظل الإدارة الإنجليزية ، وإذا كانت سلطات الاحتلال قد خفضت بعض الضرائب في مستهل حكمها وألغت البعض الآخر، فقد أثبتت الدراسات التي أجريت حول هذا الموضوع، بأن ما تم بشأن الإلغاء إنما يرجع إلى أن نفقات جبايتها تبتلع معظم العائد منها (48)  .


ومع ذلك ظلت الضرائب المفروضة ثقيلة، وبلغت جملة الحجوزات الإدارية التي وقعت عليهم في الفترة من 1310-1321هـ/ 1893-1903م 323.259 حجزا، ونفذ البيع بالمزاد في 2.640 حالة، بلغت مساحة الأرض المباعة فيها 53.880 فدانا (49) ، وتوالت بعد ذلك الحجوزات التي تقدر بعشرات الآلاف في السنوات التالية ، وترتب على ذلك ضياع الكثير من الملكيات الصغيرة سدادا للديون، وانتقلت ملكية تلك الأراضي إلى الأعيان ومشايخ القرى وبعض اليونانيين والسوريين (50) .


وفي عام 1301هـ/ 1884 م يوجه اللورد كرومر ضربة أخرى إلى صغار الفلاحين وذلك بإلغاء مجانية التعليم، فحرم بذلك أبناء الفقراء منهم والذين يمثلون السواد الأعظم من الشعب المصري من تلقي العلم، بحجة أن من يرغب في العلم فعليه إثبات ذلك بدفع


نفقاته   (51) وأدى انتشار الجهل بين الفلاحين إلى سوء أوضاعهم الاجتماعية والمادية والصحية. ولم تكن سلطات الاحتلال تعبأ بما يصيب الفلاحين من أمراض، لأن سياستها الصحية كانت وقائية فحسب وليست علاجية(52) .


أما عن حادثة دنشواي (53) 1324هـ/ 13 يونيه 1906م ) التي أسقطت القناع عن وجه كرومر، وأظهرت زيف ادعاءاته بالعطف على الفلاحين والعمل على إصلاح أوضاعهم، فالحادثة تمثل غضبة الفلاحين من قوات الاحتلال التي كانت دائمة التوغل في أرجاء الريف المصري فيما بين القاهرة والإسكندرية، لإرهاب الفلاحين والقضاء على روح التدمر والغضب من تلك القوات (54) ومن سياسة المحتل الزراعية التي أثرت كبار ملاك الأراضي، فزادت دخولهم، واتسعت ملكياتهم، بينما كادت تنقرض الملكيات الصغيرة، فزادت دخولهم، واتسعت ملكياتهم، بينما كادت تنقرض الملكيات الصغيرة، فضلا عن كثرة عدد المعدمين. فجذور الحادثة ترجع إلى السنوات السابقة عليها، وما عاناه الفلاحون من سلطات الاحتلال.


وخلاصة الحادثة أن بعض الضباط الإنجليز وهم في طريقهم من القاهرة إلى الإسكندرية قد توقفوا عند بلدة منوف، وأبدى بعض الضباط ورغبتهم لمأمور المراكز في الصيد في قرية دنشواين فوافق على طلبهم وأعد لهم المركبات اللازمة لذلك؛ هناك توغل أحد الضباط داخل القرية، وصوب طلقاته على أحد أجران القمح، فصاح به أحد الفلاحين بأن يكف عن إطلاق النار وإلا احترق الجرن، فلم يأبه لتحذيره وواصل طلقاته فقتل امرأة وأشعل النار في أحد الأجران، فتجمع أهل القرية للإمساك به، فهب زملاؤه لنجدته، وجرى ضابطان آخران في اتجاه معسكرهما للالتجاء به، وكان الحر شديدا فسقط ميتا من ضربة الشمس(55) .


وما إن علمت سلطات الاحتلال بالحادث حتى طاش صوابها، وعزمت على الانتقام من الفلاحين وأن تنزل بهم أشد أنواع العقاب، فقبضت على 250 فردا وحاصرت القرية بقوات كبيرة العدد، وقدم المتهمون للمحاكمة أمام المحكمة المخصوصة، وأقيمت المشانق في القرية قبل أن ينتهي التحقيق، مما يدل على النية المبيتة لضرب الحركة الوطنية في هؤلاء المتهمين.


واستغل الزعيم مصطفى كامل هذه الحادثة لمهاجمة السياسة البريطانية في مصر وفي أوربا بكل شدة وعنف منددا بعدالة الإنجليز في دنشواي(56) . وصدر الحكم بإعدام أربعة فلاحين شنقا ونفذ الحكم داخل القرية، وحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة على اثنين، وبالأشغال الشاقة لمدة 15 عاما على واحد، وبالأشغال الشاقة لسبع سنوات على ستة، وبالحبس والشغل مدة سنة والجلد خمسين جلدة على أربعة، وبالجلد خمسين جلدة على خمسة أفراد.


حدث هذا رغم أن تقرير الطبيب الشرعي الإنجليزي قد أثبت أن الوفاة كانت بسبب ضربة الشمس، وليست نتيجة عدوان وقع عليه.


 


لا ريب أن الحادثة قد أثبتت بما لا يدع مجالا للشك زيف ما تغنى به كرومر طوال فترة وجوده في مصر، من صداقته للفلاحين، وعطفه عليهم والعمل على إصلاح أحوالهم ومعاملته بالعدل.


فما دونه كرومر في كتابه Modern Egypt عن سياسة بريطانيا في مصر به تشويه لتاريخ تلك الفترة وقلب للحقائق. ومما يؤسف له أن الكثيرين من المؤرخين الأجانب والعرب قد نقلوا عنه، بصفته مصدرا هاما من مصادر تاريخ تلك الفترة.


ولذا كان على بريطانيا، بعد أن تعرت سياسة كرومر أمام المصريين، أن تسحبه من مصر، وأن تستبدله بغيره عنه في الأسلوب ولكن لا يختلف عنه في الغاية.


ويمكننا القول أن هذه الحادثة أدت إلى نشاط الحركة الوطنية، وإلى سيادة روح التذمر والبغض لدى كل المصريين، ولا سيما الفلاحين (57) .


ولذا لم يكن من قبيل الصدفة أن تقوم ثورة 1337 هـ/ 1919 على أكتاف الفلاحين في مرحلتها الأولى، وكانت عنيفة ومدمرة


ونظرا لأن سلطات الاحتلال كانت تخشى من انتقام الفلاحين بعد تلك الحادثة إذا ما أتيحت لهم الفرصة المناسبة، فقدلجأت في سنتي 1334 - 1335 هـ/ 1915 - 1916م إلى نزع ما بأيديهم من أسلحة بلغت ما لا يقل عن مائة قطعة مختلفة الأنواع والأحجام  (58) فقل ما بأيديهم من أسلحة، ترتب على ذلك كثرة ما سقط من ضحايا خلال ثورة 1337 هـ/ 1919 م.


من الأمثلة السابقة سيتضح لنا أن الدول الاستعمارية كثيرا ما لجأت إلى تزييف الحقائق التاريخية وتشويهها ، كي تتفق مع أهدافها ومع سياستها الاستعمارية التي رسمتها لحكم الشعوب المقهورة، والتي تهدف في المقام الأول تحقيق مصالحها أولا وقبل كل شيء. وأن منطق القوة الغاشمة قد دفعها إلى العبث بكل شيء، بمقدسات تلك الشعوب وبقيمها، وعاداتها وتقاليدها، وتاريخها، ومثلها الأعلى في ذلك "الغاية تبرر الوسيلة "


الحركة الاستعمارية ليست حديثة العهد، بل هي قديمة قدم التاريخ المكتوب، وإن كانت لم تعرف بهذا الاسم إلا في العصر الحديث ، فالاستعمار يعني استيلاء دولة على ممتلكات دولة وتقاليدها وتاريخها ما استطاعت والاستبداد، ومحاولة تغيير ثقافة الدولة المغلوبة وتقليدها وتاريخها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا ، وقد أثرت تلك الحركة تأثيرا قويا في السياسة الدولية في هذا العصر.
ولفهم وسائل وأساليب الاستعمار في تزييف وتشويه تاريخ الأمم والشعوب التي نكبت به بصفة عامة والدول الإسلامية بصفة خاصة، لا بد لنا من الإلمام بأقوال دهاقنة الاستعمار من رجال السياسة والفكر في أوربا، ممن كانت لأقوالهم وأفعالهم أكبر الأثر في دفع حركة الاستعمار وفي تطورها وتوجيهها الوجهة التي يريدونها ، فمن هذه الأقوال ندرك زيف ادعاءاتهم منذ بدايات ومقدمات الحركة الاستعمارية ، ومن المنطقي أن تؤدي المقدمات الزائفة إلى نتائج زائفة ، فليس من العسير على هؤلاء أن يشوهوا تاريخ الشعوب التي حكموها ليبرروا وجودهم رغم أنف تلك الشعوب.
أما عن الأساليب والدوافع التي تذرعت بها الدول الكبرى لتبرير استعارها - غير الأسباب الحقيقية التي تهدف إلى التملك والتسلط والسيطرة على مقدرات الشعوب سياسيا واقتصاديا وثقافيا، واستنزاف مواردها لخدمة ولرفاهية شعوب تلك الدول الكبرى - فهي متعددة، فمنها من اعتبرها مسألة كرامة أو هيبة ( Prestige) مثل بنجامين دزريلي ( Benjamin Disreali) (1) وزير خارجية بريطانيا ورئيس وزرائها في خطابه الذي ألقاه في ( Crystal Palace) في عام 1289هـ/ 1872 م وكأن هيبة الدولة وكرامتها لن تصبح حقيقة واقعة إلا باستبعاد غيرها من الشعوب.
ولم يكن دزيلي وحده - وقتئذ- يفتخر بعظمة الإمبراطورية البريطانية وإنجازات بريطانيا الاستعمارية ، بل شاركه في ذلك كثيرون من رجال السياسة والفكر أمثال شارلز دلكه (Charles Dilke) (2) ، جيمي فرود ( James Froude) (3)  وجون سيلي ( John Seeley)  (4) ،وتوماس كارليل Thomas Caryle))  (5) ، وشارلز كنجلسي ( Charles Kingsley)   (6) ،وجون رسكن ( John Ruskin)  (7) ، وألفريد تنيسون ( Alfred Tennyson)  (8) ، ولورد سولسبري (Lord Salibryry)  (9) ،وجول يري  Jules Ferry) ) (10) ،وسيسيل رودس ( Cecil Rodes) (11) وهوراشيو كتشنر ( Herbert Kitchener ) (12) ،وغيرهم.
ومن الادعاءات الزائفة لتبرير الاستعمار ادعاؤهم بأن للرجل الأبيض رسالة عليه أن يؤديها للشعوب المختلفة، وتشدق بهذا القول الكثيرون من رجال السياسة والفكر، ويعبر عن هذا الرأي الكاتب وياث ( Wayath) في كتابه «  Ethics Of Empire » فيقول : " إن واجبا محددا قد عينه القدر لنا - وليس لغيرنا- وهو أن نحمل مشعل النور والحضارة إلى داخل الأماكن المظلمة في العالم، وأن نلمس عقول أبناء آسيا وإفريقيا بالقيم الأخلاقية النابعة من أوربا " (13) وهذا القول فيه تجن على تلك الشعوب، فالقيم الأخلاقية لم تنشأ في أوربا وحدها، وإنما نزلت بها عن طريق القهر والبطش.
ويرد على هذا الادعاء أحد كبار المؤرخين الفرنسيين المعاصرين وهو الأستاذ بيبر رنوفن ( Pierre Renouvan) بأن هذا القول "هو دائما مجرد شكل بسيط لتغطية المصالح أو الأطماع"(14).
كذلك روج بعض الكتاب والمفكرين الاجتماعيين لحركة الاستعمار بالمناداة بنظرية "الصراع من أجل البقاء" ( Struggle For Existence)  ،وعبر عن هذا الاتجاه رويارد كبلنج (Ruyard Kipling)  (15) في عام 1308/ 1890 م؛ كما دعا هؤلاء إلى نظرية أخرى وجدت صداها في الأوساط الاستعمارية وقتذاك، ألا وهي نظرية "البقاء للأصلح" ( Suevival Of the Fittest) ، وقد عبر عنها كبلنج بقوله " بأن الاستعمار هو صورة من صور الكفاح من أجل الحياة، حيث ينتصر الشعب الأكثر استعدادا من الناحية الجسمانية والفكرية "(16) .
وفي هذا المعنى أيضا يذكر الكاتب كارب بيرسون (Karl Vbreason) (17) "أن التاريخ يطلعني على طريقة واحدة  لا يوجد غيرها، أدت إلى قيام حالة حضارية هي الصراع بين الأجناس، والبقاء للعنصر أو الجنس الأصلح في الجسم والعقل...إن طريق التقدم تغطية أشلاء الأمم التي تبيد ..إن الشعوب التي بادت، هي في حقيقتها الواضحة للعيان الدرج الذي رقاه الجنس البشري صاعدا نحو الحياة الفكرية الراقية والحياة الوطنية الراسخة التي نحياها اليوم".
وكأن البشرية في عرف هؤلاء الكتاب لن تتقدم إلا على أشلاء الشعوب الضعيفة التي كانت ضحية الاستعمار والمستعمرين.
كذلك حمل بعض المفكرين لواء نظرية " التطور الاجتماعي" التي أدت إلى ظهور فكرة تقسيم العالم إلى مجموعات كبيرة، فينقسم إلى ثلاثة أو أربعة شعوب كبرى صالحة للبقاء، وعلى الشعوب الضعيفة أن تموت أو تفنى أمام الدول القوية أو أن تخضع لها.
بل لقد بلغ الإسفاف والزيف في تبرير الاستعمار أنه - نسب - حاشا لله- إلى المشيئة الإلهية فيقول روزبري ( Rosebery) ( 1264-1349هـ 1847- 1929م) وهو من كبار حزب الأحرار في بريطانيا، "وأعتقد أن الإنجليز بطارقة العالم، وأنهم امبرياليون ( مستعمرون) - لا لأنهم أرادوا ذلك- ولكن لقانون عالمي إلهي يوجههم إلى أداء ذلك الواجب" (18) .
والحقيقة التي لا مراء فيها أن الطمع في ثروات الشعوب الضعيفة ، والاستئثار بها لرفاهية شعوب الدول المتعدية كانت المحرك الأساسي لحركة الاستعمار ، ويعبر عن هذا الرأي بصراحة تامة السير أوستن تشمبرلن (Sir Joseph  Austen Chamberlin ) ) (19) فيقول : " هل هناك من يعتقد وهو في كامل وعيه أن السكان المكتظين في هذه الجزيرة ( يقصد بريطانيا ) يستطيعون أن يعيشوا ليوم واحد لو انقطعت عنا المناطق العظيمة التابعة لنا ، التي تتجه إلينا طلبا للحماية والمساعدة ، والتي تشكل الأسواق الطبيعية لتجارتنا "(20) .
ورغم الصراحة التي يتصف بها هذا القول من مسئول بريطاني كبير ، إلا أن الزيف واضح في قوله إن تلك البلاد قد التجأت إليهم طلبا للمساعدة والحماية ،فالحقيقة أن كل البلاد التي خضعت للاستعمار قد وقعت بصورة أو بأخرى في قبضته ، نتيجة الغزو المسلح تارة أو التهديد والإجبار تارة أخرى ، ولم برغبتها الحرة على أي حال .
بعد هذا العرض الموجز لما أوردناه من آراء وأفكار ، جاءت على ألسنة كبار رجال السياسة والفكر ، يتضح لنا أن الاستعمار قام أساسا على زيف في القول والعمل ، وأن القائمين على أمره لم يتورعوا عن تزييف أسبابه ، فهم بالتالي لن يتورعوا عن تشويه وتزييف تاريخ الأمة الإسلامية التي خضعت لحكمهم ، كي يتمشى مع أهدافهم ومصالحهم . والأمثلة على ذلك كثيرة . ولكنني سأتناول بعضها على سبيل المثال - لا الحصر - إذ إن المقام لا يسمح بغير ذلك أولا - موفق المؤرخين الأوربيين من الدولة العثمانية.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

زوار