الهجرة عظة وعبرة
لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -
تسلُّط الغطرَسة، وحميَّة الجاهلية على قريش، وأراد الله إعزاز دينه على يد
غيرهم - أخذ يَخرُج إلى المواسم العربية (وهي أسواق كانت العرب تعقدها
للتجارة والمفاخرة)، ويَعرِض الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسَه على
القبائل، ليَحموه حتى يؤدي رسالة ربه، فكان بعضُهم يرد ردًّا مليحًا،
وبعضهم يرد ردًّا قبيحًا.
وفي أحد المواسم تعرَّض لنفر من عرب يثرب (المدينة)
يَبلغون الستة، فدعاهم الرسول إلى الإسلام، فأسلموا ووعدوه المقابلة في
الموسم المُقبِل، وفيه قدم اثنا عشر رجلاً فأسلَموا، وبايَعوا رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - على ألا يُشرِكوا بالله شيئًا، وعلى السمع والطاعة
لله ولرسوله، وأرسل معهم مَن يُقرئهم القرآن، ويُفقِّههم في الدين، تلك هي
البيعة الأولى، وكانت كما نَرى على التمسُّك بالآداب التي جاء بها الإسلام،
ودعا إليها القرآن؛ فهي مجموعة من الأوامر والنواهي، وهي جانب رفيع من
الأخلاق أراد الإسلام أن يُنشئ عليها المجتمع المسلم؛ ليُطهِّره من أرجاس
الجاهلية، ويبتعد به عن الأخلاقِ الدنية، وليكون هذا المجتمع الذي ستقوم
على كواهله دولة الإسلام مجتمَعًا نموذجيًّا فريدًا، يرى فيه الناس آمالهم
التي يتطلَّعون إليها حية متحرِّكة، ويلمسون من خلاله المثُل التي كانوا
يتلهَّفون عليها، وأقبل موسِم السنَة الثالثة عشرة من البعثة النبوية، وقدم
مصعب بن عمير إلى مكة، وقدم وفد من المسلمين حُجاجًا مع قومهم من
المُشرِكين وكانوا قد عزَموا على ألا يدعوا رسولَ الله - صلى الله عليه
وسلم - في مكة تُهدِّده قريش وتتوعَّده، واتَّفقوا على أن يلتقوا برسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ليلاً سرًّا، حتى لا تشعر قريش، فيسعوا في نقض
ما أبرم، واتَّفقوا على أن يلتقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند
العَقَبة، وأن يكون خُروجهم من خيامهم مُستخفِين بعد أن يمضيَ هزيع من
الليل يطمئنون فيه إلى نوم مَن معهم من المشركين حتى لا يروهم، وأن يكون
ذلك في أوسط أيام التشريق[1].
وجاء اليوم الموعود،
وجنَّ الليل، وأخذ المسلمون يتحيَّنون الفرصة ويَرقُبون مَن معهم من
المشركين، ودخَل كلٌّ منهم في فراشه متظاهرًا بغلَبة النوم، حتى إذا غطَّ
المشركون في نوم عميق، انساب المسلمون مُتسلِّلين[2]، لم يَحرِصوا على شيء قطُّ حرصَهم على اللقاء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليلة.
اجتمَع المسلمون في الشِّعب عند العقبة،
وأخَذوا يترقَّبون قدوم الرسول بفارغ الصبر، وأقبَلَ الرسول ومعه عمه
العباس بن عبدالمطلب، ولم يكن أسلَم، ولكنه أراد أن يستوثق لأمر ابن أخيه،
ويَحضُر البيعة التي سيَعقِدها مع أهل المدينة.
جلس الرسول وجلَس القوم مِن حوله، وكان
أول المتكلِّمين العباس بن عبدالمطلب، قال: يا معشر الخزرج، إن محمدًا
مِنَّا حيث قد علمتُم، وقد منعناه مِن قومِنا، ممَّن هو على مثل ما رأينا
فيه؛ فهو في عزٍّ من قومه، ومنَعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز
إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتُموه إليه،
ومانِعوه ممَّن خالفه، فأنت وما تحمَّلتُم من ذلك.
وإن كنتم ترون أنكم مُسلِموه وخاذِلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه؛ فإنه في عزٍّ ومنَعة من قومه وبلده.
قالوا: قد سمعنا ما قلتَ، فتكلم يا رسولَ
الله فخُذْ لنفسك وربك ما أحببت، وهنا تكلم الرسول - صلى الله عليه وسلم -
فتلا القرآن، ورغَّب في الإسلام، ودعا إلى الله، ثم قال: ((أبايعكم على أن
تمنَعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم)).
وتمَّت البَيعة بين رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - وبين المسلمين من أهل يثرب، وعندئذ قال لهم الرسول: أَخرِجوا
إلي منكم اثنَي عشَر نقيبًا، ليكونوا على قومِهم بما فيهم، فأخرَجوا له
اثني عشَرَ نقيبًا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس[3]،
فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتم على قومِكم بما فيهم
كفلاء ككفالة الحواريين عيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي، قالوا: نعم[4].
وقد ظنَّ المسلمون أن أمرَهم لا يزال في
الخَفاء، ولم يطَّلع عليه أحد، وبخاصة وقد أخَذوا حذرهم ودبَّروا أمرهم،
فقد تواعَدوا عند العقبة في مكان بعيد عن الناس، وكان ذلك في جوف الليل بعد
أن نام أهل الموسم، كما كان في أضيق فرصة من أيام الحج حتى إذا علمَت
قريش، لم يكن لديها الفُرصة لتعوق القوم وتعترِض طريقهم.
ومع كل هذه الاحتياطات، ورغم كل هذا الحذر
فقد انكشفَ الأمر، وخرَج صارخ بأعلى صوت: يا أهل الجباجب - وهي المنازل -
هل لكم في مُذمَّم والصُّباة معه، قد أجمَعوا على حربكم[5].
يقول كُتَّاب السِّيَر والمؤرِّخون: إن
الصارخ هو الشيطان، وأن الرسولَ قال لما سَمِعَ الصارخ: هذا أزبُّ العقبة؛
أي عدوُّ الله، أما والله لأفرغنَّ لك[6]، وعندئذ قال الرسول لمن بايَعوه: ارجِعوا إلى رحالكم.
هذا وقد أثَّرت مُبايعة الأنصار للنبي -
صلى الله عليه وسلم - في قريش تأثيرًا بعيد المدى أليم الواقع، ورأوا أن
إيذاءهم لرسول الله وأصحابه على شدَّته وإغراقهم فيه - لم يحُل دون المضي
في بثِّ الدعوة وانتشارها، فاجتمعوا في دار الندوة للنظر في ذلك الأمر الذي
روَّعهم، وأقضَّ مضجَعَهم - أقلقهم جدًّا - وبعد تبادُل الآراء اتَّفقوا
على أن يَختاروا من كل قبيلة شابًّا شجاعًا، ويرصده - يرقبه - هؤلاء الشبان
حتى ينام، فيَثِبُوا عليه، أو يخرج من داره فيهجموا عليه ويضربوه ضربة رجل
واحد، وبذلك يتفرَّق دمه على القبائل، فلا يَستطيع بنو عبدمناف أن يثأروا
له، فيَقبلون الدية، فأقرُّوا هذا الرأي، ﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
فأخبر الله - تعالى - نبيَّه بذلك،
وبالليلة التي عزموا على إنفاذ فعلتهم فيها، وأمَره بالهجرة إلى يثرب في
تلك الليلة، فأمر الرسول عليَّ بن أبي طالب بالنوم في فراشه، وغطاه ببردته،
إيهامًا للقوم بأنه ما زال في فراشه، وقَبِلَ الإمام علي - كرم الله وجهه -
هذا التفدية بغِبطة وشجاعة، وبقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنزل
حتى أرخى الليل سدوله وران الكرى على أجفان الراصِدين، فخرَج ونثَر على
رؤوسهم التراب وهو يتلو: ﴿ يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ
﴾ [يس: 1 - 9]، وحصَبَهم بالتراب فلم يبقَ فيهم رجل جليد نسيب وسيط في قوم
أبي جهل وأتباعه إلا وضَع على رأسه ترابًا، وناموا أو داخُوا أو شلُّوا أو
مُسخِوا، لقد سُحبت قوتهم، وعميت عيونهم حتى جاءهم آت ممَّن لم يكن معهم
فقال لهم: ما تَنتظِرون؟ قالوا: محمدًا، قال: خيبكم الله، قد والله خرَج
عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضَع على رأسه ترابًا، وانطلَق
لحاجته[7].
هذه هي نتيجة القرار البرلماني الأرضي
الذي يستمدُّ نظامه من الطين، حبات حصى نثَرها رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - على رؤوس الجيش الفتيِّ الذي جاء لينفذ قرار التنظيم الأرضي،
ويسلَمَ (عليٌّ) من المؤامرة، ويبقى في مكة ليُصفِّي بقيات العلاقات، ويؤدي
الأمانات التي كان يَحفظها الجاهليُّون عند محمد - صلى الله عليه وسلم -
ليقينهم أنه وحده الأمين الصادق[8].
ويَنطلِق الركب النبوي ومعه الصديق الوفي
إلى غار ثور أو جبل ثور، وتبقى سرية المخابرات الإسلامية في مكة؛ عبدالله
بن أبي بكر؛ ليَستمِع ما يقول الناس فيها نهارًا ليبلغ الأخبار إليهما
ليلاً، وعامر بن فهيرة يرعى الغنم نهارًا، ثم يريحها عليهما في الغار عند
المساء، وأسماء بنت أبي بكر تُجهِّز الزاد وتذهَب به في ثياب الليل الأسمر.
ولما علم المشركون بخيبة تدبيرهم، وفساد
مكرهم، ثارت ثائرتهم، وهاجت عاطفتهم فطلبوه بمكة؛ أعلاها وأسفلها، وبعثوا
القافة - جمع قائف، وهو مَن يَعرِف الآثار، وقاف أثره: تبعه - في إثره في
كل وجهٍ، وجعلوا مائة ناقة لمن يردُّه، فوجد الذين ذهبوا قِبَل ثور أثره
هناك، فلم يزالوا يقتفونه حتى انقطع عنده، فاستبعدوا أن يكون داخل الغار،
وكان فتيان قريش من كل بطن يُحيطون الغار بعصيِّهم وهراواتهم وسيوفهم
وحماسهم وكراهيتهم ومرارة هزيمتهم المُبرِّحة، وقال لهم حكماؤهم وفلاسفتهم
ووجهاء القوم عندهم: "إلى باب الغار انتهى وقع الأقدام".
لماذا لم يفترض الفيلسوف الماهر أن تلك
البراءة والشجرة والحمامتين الوحشيتين سحر من سحر محمد، فيسمح للجيش الجرار
المتحمس لتنفيذ قرار برلمان زقِّ الخمر بتفتيش الغار فيا ربما وجدوا
إربتهم؟ لقد كانوا من الحمق بحيث لا يعقلون ما يريدون، ولا يفهمون ما
يودون، ألم يقل لهم في مكة: ﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
﴾ [العنكبوت: 41]، فلماذا لم يقدروا على إزالتها وتفتيش ما بداخل الغار؟
لقد أضلَّهم الله على علم وختم على سمعهم وأبصارهم، فمَن يهديهم مِن بعد
الله؟ وعادت قريش: عاد أعضاء البرلمان الجاهلي الأرضي العبقري، وعادت
الشباب الجليد النسيب الفتي، وعادت فلاسفة القيافة والأثر بخيبة أمل لا
مثيل لها في التاريخ، وروي أن سيدنا أبا بكر لما رأى القافة اشتدَّ حزنه
على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "إن قُتلت أنا، فإنما أنا رجل
واحد، وإن قُتلتَ أنت هلكَت الأمة، فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه
وسلم -: ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40].
وفي صبحِ اليوم الثالث جاءتهما الراحلتان،
فركِبا إلى المدينة من طريق الساحل، وهو طريق غير مألوف، ونجاهما الله مِن
الظالمين، وقابلهما أهل المدينة بأعظمِ ترحيب.
العبرة من الهِجرة:
1-
أراد الله تعالى ألا يَنتشِر الإسلام بمكة أولاً، حتى لا يتخذ ذلك وسيلة
إلى الطعن عليه بأن قريشًا طمحت في المُلكِ فأوعزَت إلى واحد منها أن
يدَّعي هذه الدعوى، ليُدركوا بذلك أمنيتهم، بل أراد الله أن يكونوا قومًا
لدًّا، لم يعرفوا في إيذاء النبي وأصحابه هوادةً ولا حدًّا.
2-
ظهر جليًّا في هذه الهجرة أن الدعوة الإسلامية كانت تُساير الأحوال العادية
للناس، وتجري على حسب الأحداث الطبيعية للبشَر التي ترتبِط فيها الأسباب
الظاهرة بمُسبباتها، ويظهر فيها التفكير والاجتِهاد، ولم يكن اعتمادها على
الآيات الكونية الخارقة للعادة، والتي تفوق مقدور البشر، ولا يَتناولها
إدراكُهم، فإن النتيجة الطبيعية لمقاومة الدعوة، مع الغلوِّ في إيقاع أشد
أنواع الأذى بالداعي - إنما هي هجر البلاد إلى أخرى تفتَح صدرها للدعوة
وتكرم صاحبَها، وتمنعُه مما تَمنع منه أهلها.
3- تجلَّى
فيها رباطة جأش النبي - صلى الله عليه وسلم - وثبات جنانه وحسنُ تدبيره
وقت ترقُّب الشبان إياه حول داره، وقد دلَّ على ذلك سعة حيلته، وعِظَم
فكرته، في انتداب عليٍّ لينام مكانه؛ ليُلقي في عقل القوم أنه لا يزال في
فراش النوم، ثم تلطُّفه في الخروج، حتى لا يشعر به الراصِدون، مع خطر
مهمَّتِهم، وعظيم اهتِمامهم، وكذلك سلوكه طريقًا غير مطروق كثيرًا،
واختباؤه في الغار ثلاث ليال، وهي المدة التي تَغلِب على الظن أنهم
يَطلُبونه فيها، ثم يتسرَّب اليأس إلى نفوسِهم.
4-
كانت الهجرة مبدأ عهد جديد لظهور الإسلام وقوته، وانتِشاره بسرعة عظيمة دهش
لها التاريخ، بعد أن مضَت عليه ثلاث عشرة سنة يُعاني أقصى ضنكٍ من
المشركين، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممنوع من الجهر بالعِبادة،
والمسلمون يتجرَّعون غُصص العذاب الشديد، حتى اضطرَّ بعضُهم قبل ذلك إلى
الهجرة إلى الحبَشة، وسبَق مُعظمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى
المدينة، وقد آخَى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المُهاجِرين والأنصار
أخوة فاقَت أخوة النسَب، فبدَّلهم الله بوطنِهم وطنًا، وبأهلهم أهلاً،
وبضَعفِهم قوة، وبذلِّهم عزًّا، وببغضِهم محبة.
﴿ وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا
أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق