مفاتيح الرزق واسبابة
فرض الله عزّ وجل
على عباده الاكتساب لطلب المعاش؛ ليستعينوا به على طاعته, قال تعالى: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ
كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:
10]. فجعل سبحانه الاكتساب سبباً للعبادة.
وقال تعالى عن
الإنسان ومحبته للمال: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ
لَشَدِيدٌ [العاديات: 8].
وقال عز وجل آمراً
عباده بعد انقضاء فريضة عظيمة هى صلاة الجمعة:
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10].
قال الإمام البغوي:
أي إذا فُرغ من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في -حوائجكم.( )
وكان عراك بن مالك
-رضي الله عنه- إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبت دعوتك
وصليت فرضك, وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين( ).
وقد حث الإسلام
على العمل والإكتساب, فهو دين العمل والحركة والسعي في الأرض وعمارتها.
قال : "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره
خير من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله فيسأله, أعطاه أو منعه"( ).
وأثنى النبي على المال الصالح في يد العبد الصالح فقال:
"نعم المال الصالح للرجل الصالح"( ).
ولم تُذم الدنيا
لذاتها, إنما لما يقع فيها من المعاصي, والذنوب, وأكل المال الحرام, فالدنيا الحرام:
الصارفة عن الدين, المجموعة من الحرام. أي أن تجمعها من الحرام, وتجعلها في الحرام.
قال : "الدنيا لأبعة رجال, رجل جمع المال من
حلِّه وأنفقه في حقه فهذا بأرفع المنازل"( ).
ورجل جمع المال
من غير حلِّه, وأنفقه في حقِّه فهذا بأخبث المنازل.
ورجل جمع المال
من غير حلهِّ, وأنفقه في حقِّه فهذا بأخبث المنازل.
ورجل جمع المال
من حله, وأنفقه في غير حقه فهذا بأخبث المنازل( ).
ويحتم العمل ويجب
الاكتساب على من كان له عيال, أو كانت له مسئولية. فقد جعل الإسلام التقصير في حق الزوجة,
والأطفال, والوالدين
من الذنوب العظيمة فعن وهب بن جابر قال: شهدت عبدالله بن عمرو بن العاص في بيت المقدس
وأتاه مولى له فقال: إني أريد أن أقيم هذا الشهر هاهنا -يعني رمضان- قال له عبدالله:
هل تركت لأهلك ما يقوتهم؟ قال: لا, قال: أمّا لا فراجع, فدع لهم ما يقوتهم, فإني سمعتُ
رسول الله يقول: "كفى بالمرء إثماً
أن يضيع من يقوت"( ).
أسباب الرزق
أسباب الرزق كثيرة
متنوعة من أهمها: لزوم التقوى, قال الله تعالى:
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ [الأعراف: 69]. وقال تعالى في ذكر الإستغفار
والتوبة وفوائدهما: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ
إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ
بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10].
ومن أعظم الأسباب
الجالبة للرزق: ترك الذنوب والمعاصي, فإنها تحرم خيري الدنيا والآخرة.
قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ
[الشورى: 30] أي بجنايتكم على أنفسكم, فقد سمَّى جناية المرء على نفسه كسباً.
وقال : "إن الرجل ليُحْرم الرزق بالذنب يصيبه"(
).
قيل لرجل من الفقهاء:
من يتق الله يجعل له مخرجًا, ويرزقه من حيث لا يحتسب, فقال الفقيه: والله, إنه ليجعل
لنا المخرج, وما بلغنا من التقوى ما هو أهله وإنه ليرزقنا وما اتقيناه, وإنا لنرجو
الثالثة, ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته, ويعظم له أجراً( ).
وقال بعض السلف
متعجباً ممن يعصي الله عز وجل كيف يرزقه الكريم الحليم, فقال: عجبت لمن يصلي الصبح
بعد طلوع الشمس كيف يرزق؟!
أين نحن من هؤلاء:
لم تكن الدنيا
أكبر همهم ومبلغ سعيهم, فلم تلههم, كانوا يعرفون نعم الله عز وجل الأخرى, وأعظمها وأهمها,
وأكملها وأتمها نعمة الإسلام, ثمَّ نعمة الصحة والعافية, والأمن في الأوطان: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا
[إبراهيم: 34].
عن الحسن بن صالح
قال: ربَّما أصبحت ما معي درهم, وكأن الدنيا كلها قد حيزت لي( ).
ولقد كان ارتباطهم
بالله عز وجل قوياً, وخوفهم من المعاصي شديداً, ولهذا يرون أثر المعاصي لقلتها في دوابهم
وزوجاتهم وأبنائهم!
فقد أغلظ رجل لوكيع
بن الجراح, ثم دخل وكيع بيتاً فعفر وجهه بالتراب, ثم خرج إلى الرجل فقال زد وكيعاً
بذنبه, فلولاه ما سُلطت عليه( ).
وكان المال وسيلة
عندهم, والمآل والمنتهى والمطلب هو جنة عدن, ولهذا تدور إجاباتهم وهمومهم على الآخرة,
فهى غاية المطالب, و ومن يسَّر الله
له المال, وساق إليه الخيرات, فليشكر الله على نعمه, وليستعملها في طاعته, ويفرقها
ذات اليمين والشمال في اصحاب الحقوق, وقضاء الحوائج.
قال ابن تيمية:
"ثم ينبغي له أن يأخذ المال بسخاوة نفس؛ ليبارك له فيه, من غير أن يكون له في
القلب مكانة, والسعي فيه إذا سعى كإصلاح الخلاء".
ثم قال رحمه الله:
"فيكون المال عنده يُستعمل في حاجته يمنزلة حماره الذي يركبه, وبساطه الذي يجلس
عليه, بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده, فيكون هلوعاً, إذا
مسه الشر جزوعاً, وإذا مسه الخير منوعاً".
ورزق الله مكتوب
مقدر, لا يجلبه حرص حريص, ولا يدفعه كسل كسول, فإن الله عز وجل قسم الأرزاق بعلمه وعدله,
ولهذا أسمى المنازل.
كفر من قال: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي إنما هي منحة ربانية؛ ليبتلي عباده بها!
قالت مريم البصرية:
ما أهتممت بالرزق ولا تعبت في طلبه منذ سمعت الله عز وجل يقول:
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ
وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات: 22].
أخي المسلم:
إذا سُدَّ باب
عنك من دون حاجةٍ
فدعه لأخرى ينفتح لك بابُها
فإن قراب البطن
يكفيك ملؤه
ويكفيك سوآت الأمور اجتنابُها
ولاتك مبذالاً
لعرضك واجتنب
ركوب المعاصي يجتنبك تقلبُها(
)
وحذر النبي أن تكون الدنيا وطعامها هَمَّ المسلم وديدنه في ليله
ونهاره, تشغله عن الطاعة, وتصرفه عن العبادة, قال :
"من أصبح والدنيا أكبر همِّه, جعل الله فقره بين عينيه, وشتَّت عليه شمله, ولم
يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له, ومن أصبح والآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه,
وجمع عليه شمله, وأتته الدنيا وهي راغمة, وكان الله بكل خير إليه أسرع"( ).
قال ابن القيم
رحمه الله تعالى: فهذا هو الفقر الحقيقي والغنى
الحقيقي, وإذا
كان هذا غنى من كانت الآخرة أكبر همه فكيف من كان الله سبحانه أكبر همه؟ فهذا من باب
التنبيه والأولى( ).
وقد وردت آيات
كثيرة نصت على الترف والمترفين, وسوء ذلك على نفوس الكثير, قال تعالى: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ
إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ [المؤمنون: 64] وقال تعالى عن أصحاب الشمال:
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ
مُتْرَفِينَ [الواقعة: 45] وقال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا
[الإسراء: 16] وقال تعالى في آية أخرى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا
قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [سبأ: 34].
والأمر في الأموال
والدور والقصور, مثلما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تصنيفه لفئات الناس مع المال:
"والفقر يصلح عليه خلق كثير, والغنى لا يصلح عليه إلا أقل منهم, ولهذا كان أكثر
ما يدخل الجنة المساكين؛ لأن فتنة الفقر أهون, وكلاهما يحتاج إلى الصبر والشكر, لكن
لما كان في السراء اللذة وفي الضراء الألم, اشتهر ذكر الشكر في السراء والصبر في الضراء".
ولهذا مال الإنسان
محدود الفائدة في ذاته إما لقمة يأكلها, أو ثوباً يلبسه أو مركباً يركبه, أما من اراد
به الله الخير فهو ينفق منه, ويتصدَّق ويواسي ويفرج, فهذا نعم المال!
كثرة المال ونتاجه
قال عز وجل: وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ [الرعد:
26].
فالأموال والدور
والقصور متاع قليل.. سنوات تمضي, وأيام تنتهي, وأنفاس لا تعود! ثم الحساب والجزاء..
قال خالد بن صفوان:
بتّ ليلتي, أتمنى, فكسبت البحر الأخضر, والذهب الأحمر, فإذا يكفيني من ذلك رغيفان,
وكوزان, وطمران( ).
وقال إسحاق بن
جبلة: دخل الحسن بن صالح يوماً السوق, وأنا معه, فرأى هذا يخيط, وهذا يصبغ, فبكى وقال:
انظر إليهم يتعللون حتى يأتيهم الموت( ).
قال الحسن: والله,
ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد
نقص عمله, وعجز رأيه, وما أمسكها الله عن عبد, فلم يظن أنه خير له فيها, إلا كان قد
نقص عمله, وعجز رأيه( ).
وكان همهم الآخرة
وعيونهم تجاه يوم عظيم..
قال موسى بن المغيرة:
رأيت محمداً بن سيرين يدخل السوق نصف النهار, يكبر ويسبح ويذكر الله عز وجل فقال له
رجل: يا أبا
بكر في هذه الساعة؟
قال: إنها ساعة غفلة( ).
وقال مالك بن دينار:
اتخذْ طاعةَ الله تجارة تأتك الأرباح من غير بضاعة( ).
أخي المسلم:
فَرِّغْ خاطرك
للهمِّ بما أُمرتَ به, ولا تشغله بما ضُمن لك, فإن الرزق والأجل قرينان مضمونان. فما
دام الأجل باقياً, كان الرزق آتياً. وإذا سد عليك بحكمته طريقاً من طرقه, فتح لك برحمته
طريقاً أنفع لك منه. فتأمل حال الجنين يأتيه غذاؤه, وهو الدم, من طريق واحدة وهو السرة,
فلما خرج من بطن الأم وانقطعت تلك الطريق فتح له طريقين اثنين, وأجرى له فيهما رزقاً
أطيب وألذ من الأول لبناً خالصاً سائغاً. فإذا تمت مدة الرضاع, وانقطعت الطريقان بالفطام,
فتح طرقاً أربعة أكمل منها: طعامان وشرابان, فالطعامان من الحيوان والنبات, والشاربان
من المياه والألبان, وما يضاف إليهما من المنافع والملاذ. فإذا مات انقطعت عنه هذه
الطرق الأربعة لكنه -سبحانه - فتح له- إن كان سعيداً - طرقاً ثمانية, وهى أبواب الجنة
الثمانية, يدخل من أيها شاء.
فهكذا الرب سبحانه
لا يمنع عبده المؤمن شيئاً من الدنيا, إلا ويؤتيه أفضل منه وأنفع له. وليس ذلك لغير
المؤمن. فإنه يمنعه الحظ الأدنى الخسيس, ولا يرضى له به؛ ليعطيه الحظ الأعلى النفيس.
والعبد لجلهله
بمصالح نفسه وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه, لا يعرف التفاوت بين ما منع منه وبين ما
ذُخِر له. بل هو مولع بحب العاجل وإن كان دنيئاً, وبقله الرغبة في الآجل وإن كان علياً.
ولو أنصف العبد ربه, وأنى له ذلك؟ لعلم أن فضله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها,
أعظم من فضله عليه فيما آتاه من ذلك, فما منعه إلا ليعطيه, ولا ابتلاه إلا ليعافيه,
ولا امتحنه إلا ليصافيه, ولا أماته إلا ليحييه, ولا أخرجه إلى هذه الدار إلا ليتأهب
منها للقدوم عليه, وليسلك الطريق الموصلة إليه. قال تعالى:
جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ
أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 62],
فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء: 99]. والله المستعان( ).
قد نادت الدنيا
على نفسها
لو كان في العالم من يسمع
كم واثق بالعمر
واريتيه
وجامع بدّدت ما يجمع( )
قال سعيد بن مسعود:
إذا رأيت الرجل تزداد دنياه على آخرته وهو به راض, فذلك المغبون الذي يلعب بوجهه وهو
لا يشعر( ).
وكان ابن السماك
يقول: يا بن آدم إنما تغدو في كسب
فوائد المال
فوائد المال تنقسم
إلى دنيوية ودينية: أما الدنيوية, فالخلق يعرفونها, ولذلك تهالكوا في طلبها. وأما الدينية
فتنحصر في ثلاثة أنواع:
أحدها: أن ينفقه
على نفسه, إما في عبادة, كالحج والجهاد, وإما في الاستعانة على العبادة, كالمطعم, والملبس,
والمسكن, وغيرها من ضرورات المعيشة, فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر, لم يتفرغ القلب
للدين والعبادة, وما لا يتوصل إلى العبادة إلا به, فهو عبادة, فأخذ الكفاية من الدنيا
للاستعانة على الدين من الفوائد الدينية, لا يدخل في هذا التوسع والزيادة على الحاجة,
فإن ذلك من حظوظ الدنيا.
النوع الثاني:
ما يصرفه إلى الناس, وهو أربعة أقسام:
أحدها: الصدقة
وفضائلها كثيرة مشهورة.
القسم الثاني:
المروءة, نعني بها صرف المال إلى الأغنياء والأشراف في ضيافة وهدية, وإعانة ونحو ذلك,
وهذا من الفوائد الدينية, إذ به يكتسب العبد الإخوان والأصدقاء.
القسم الثالث:
وقاية العرض نحو بذل المال لدفع هجو الشعراء, وثلب السفهاء, وقطع ألسنتهم, وكف شرهم,
فهو من الفوائد الدينية, فإن النبي قال: "ما وقى الرجل به
عرضه فهو صدقة" وهذا لأنه يمنع العتاب من معصية الغيبة, ويحرز مما يثير كلامه
من العداوة التي تحمل في الانتقام على مجاوزة حدود الشريعة.
القسم الرابع:
ما يعطيه أجراً على الاستخدام, فإن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لمهنة أسبابها
كثيرة, ولو تولاها بنفسه ضاعت أوقاته, وتعذر عليه سلوك الآخرة بالفكر, والذكر, اللذين
هما أعلى مقامات السالك, ومن لا مال له يفتقر إلى أن يتولى خدمة نفسه بنفسه, فكل ما
يتصور أن يقوم به غيرك, ويحصل بذلك غرضك, فإن تشاغلك به غبن؛ لان احتياجك إلى التشاغل
بما لا يقوم به غيرك من العلم والعمل والذكر والفكر أشد.
النوع الثالث:
ما لا يصرفه الإنسان إلى معين, لكن يحصل به خيراً عاماً, كبناء المساجد والقناطر, والوقوف
المؤبدة. فهذه جملة فوائد المال في الدين, سوى ما يتعلق بالحظوظ العاجلة ومن الخلاص
من ذلك السؤال, وحقارة الفقر, والعز بين الخلق والكرامة في القلوب, والوقار( ).
أخي المسلم:
كان السلف يخشون
النعم أن تكون استدراجاً لهم, ولهذا قال بعضهم: من سأل الله الدنيا فإنما يسأل طول
الوقوف للحساب( ).
وكان أبو الدرداء
يقول: اللهم إني أعوذ بك من تفرقة القلب قيل: وما تفرقة القلب؟ قال: أن يوضع لي في
كل نفق مالاً( ).
والكنز ورأس المال
في هذه الدنيا, ما قاله علي بن الحسين: من
قنع بما قسم الله
له فهو من أغنى الناس( ).
نصيبك مما تجمع
الدهر كله
ردان تلوى فيهما وحنُوط
أخي المسلم:
الدراهم أربعة:
درهم اكتُسِب بطاعة الله وأُخرج في حق الله, فذاك خير الدراهم, ودرهم اكتسب بمعصية
الله, وأُخرج في معصية الله, فذاك شرُّ الدراهم, ودرهم اكتسب بأذى مسلم وأُخرج في أذى
مسلم, فهو كذلك, ودرهم اكتسب بمُباح وأُنفق في شهوة مباحة, فذاك لا له ولا عليه.
هذا أصول الدراهم,
ويتفرع أُخَر: منها درهم اكتسب بحق وأُنفق في باطل, ودرهم اكتسب بباطل وأنفق في حق,
فإنفاقه كفارته, ودرهم اكتسب من شبهة فكفارته أن ينفق في طاعة. وكما يتلق الثواب والعقاب,
والمدح والذم بإِخراج الدرهم, فكذلك يتعلق باكتسابه. وكذلك يسأل عن مستخرجه ومصروفه
من أين اكتسبه, وفيم أنفقه؟( ).
قال ميمون بن مهران:
لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام جزءاً من الحلال( ).
قال زبير بن الحارث:
ألف بعرة أحب إليّ من ألف دينار( ).
والدنيا على كبرها
في أعيننا إلا أنها في الواقع حقيرة صغيرة.
قال أبو الدرداء:
أهل الأموال يأكلون ونأكل, ويشربون ونشرب, ويلبسون ونلبس, ويركبون ونركب, ولهم فضول
أموال ينظرون إليها وننظر إليها معهم, وحسابهم عليها ونحن براء( ).
لقد ورث الإمام
البخاري تركة عظيمة من أبيه العلامة إسماعيل, ولم يكن إسماعيل في تجارته كسائر الناس
من التجار الذين قد لا يتورعون عن بعض الأمور, أو يقع من عمالهم ومساعديهم شيء من التساهل
والخطأ, فيقعون في أمور يلزم اجتنابها والحذر منها, وهكذا تصبح الأموال المكتسبة منها
موضع شك وارتياب, ولكن إسماعيل كان حذراً في تجارته, محتاطاً في اكتسابه فقد كان مجتنباً
بعيداً كل البعد عن جميع مواضع الشبهات, وقد قال ذلك لأحيد بن حفص, وكان من أخص تلاميذه,
عند وفاته:
لا أعلم من مالي
درهماً من حرام, ولا درهماً من شبهة( ).
وتعجب أبو حفص
لهذا القول الذي يدل على أن إسماعيل كان مبالغاً في الاحتياط واتقاء الشبهات, وفي الوقت
نفسه كان يريد أن يوضح لوارثه الذي كانت الأقدار تيهئه ليكون إمام الدنيا, ويلقب بإمام
المحدثين, أن لا يقع في قلبه أدنى شك فيجتنبه, أو يتنازل عنه,
بل يستفيد منه
في مشاكله؛ لأنه طاهر وطيب من كل وجه.
وقال محمد بن أبي
حاتم عن الإمام البخاري: إنه كان يعطي هذا المال مضاربة, وهى نوع من أنواع التجارة؛
لكي يتفرغ لخدمة العلم النبوي, وكان الله سبحانه وتعالى قد أغناه من كل جهة.
وكان سمحاً, رحيماً,
قد اُعطى حظاً وافراً منهما, فذات مرة قطع له أحد الغرماء خمسة وعشرين ألفاً, فقيل
له بأن الغريم قد وصل إلى آمل, وبإمكانك أن تأخذ منه الدراهم, فقال لهم: لا ينبغي لي
أن أتعبه.
قال محمد بن أبي
حاتم: فلما عرف الغريم جهودنا انتقل إلى خوارزم, فقلنا له: استعن بكتاب الوالي إلى
حاكم خوارزم (لأن الغريم ليس بعيداً, وبإمكانهم أن يلحقوه بكل سهولة) فقال لهم: إن
أخذت منهم كتاباً طمعوا, ولن أبيع ديني بدنياي.
قال محمد بن حاتم:
وكان لأبي عبدالله غريم قطع عليه مالاً كثيراً, فبلغه أنه قدم آمل ونحن بفربر, فقلنا
له: ينبغي أن تعبر وتأخذه بمالك, فقال: ليس لنا أن نروعه.
ثم بلغ غريمه,
فخرج إلى خوارزم فقلنا: ينبغي أن تقول لأبي سلمة الكشاني, عامل آمل؛ ليكتب إلى خوارزم
في أخذه, فقال: إن أخذت منهم كتاباً طمعوا مني في كتاب, ولست أبيع ديني بدنياي.
فجهدنا فلم نأخذه
حتى كلمنا السلطان عن أمره, فكتب إلى والي خوارزم, فلما بلغ أبا عبدالله ذلك وجد وجداً
شديداً, وقال لا
تكونوا أشفق عليَّ
من نفسي, وكتب كتاباً, وأردف تلك الكتب بكتب وكتب إلى بعض, فرجع غريمه, وقصد ناحية
مرو فاجتمع التجار وأخبروا السلطان, فأراد التشديد على الغريم, فكره ذلك أبو عبدالله,
وصالح غريمه على أن يعطيه كل سنة عشرة دراهم شيئاً يسيراً, وكان المال خمس وعشرين ألفاً,
ولم يصل من ذلك إليَّ درهم ولا إلى أكثر منه( ).
وكان يهدف الإمام
البخاري من تجارته هذه (أي المضاربة) أن ينفع خلق الله, فكان يساعد أهل العلم, وطلبة
العلم, والشيوخ المحدثين, وكان ينفق من دخله خمسمائة درهم على الفقراء والمساكين, وطلبة
العلم, وأصحاب الحديث كل شهر, فكان يعين طلبة العلم, ويشجعهم على الانهماك في طلب العلوم
النبوية, ويحسن إلى أهل العلم كثيراً, ولم يكن يعرف الترف والبذخ في حياته في المأكل
والمشرب, فكان الصبر والاحتمال قد أصبحا
طبيعةً له.
هب أنك قد ملكت
الأرض طُراً
ودان لك البلاد فكان ماذا؟
أليس غدًا مصيرك
تُرب؟
ويحثو التراب هذا ثم هذا
قال الحسن: إذا
أراد الله بعبد خيراً أعطاه من الدنيا عطية, ثم يمسك فإذا نفد أعاد عليه, وإذا هان
عليه عبد بسط له الدنيا بسطاً.
وقال أبو حازم
سلمة بن دينار: إن وقينا شر ما أعطينا لم ننل ما فاتنا( ).
وعن حميد الطويل
قال: خطب رجل إلى الحسن, وكنت أنا السفير بينهما, قال: فكأن قد رضيته يوماً اثنى عليه
بين يديه, فقلت: يا أبا سعيد وأزيدك أن له خمسين ألف درهم, قال: له خمسون ألف ما اجتمعت
حلال, قلت: يا أبا سعيد إنه كما علمت ورع مسلم, قال: إن كان جمعها من حلال فقد ضن بها
عن حق, لا والله, لا أجري بيننا صهراً أبدا( ).
وحال الناس مع
الأموال, وزيادتها ونقصانها عجيب, ومن أعجب العجيب أنه يهتم بالنقص من ماله, ولا يهتم
بالنقص مما هو أعظم من أموال الدنيا!
قال يحيى بن معاذ:
عجبت ممن يحزن على نقصان ماله. كيف لا يحزن على نقصان عمره؟!( ).
وعندما مرض قيس
بن سعد بن عبادة, استبطأ إخوانه, فقيل له: إنهم يستحون مما لك عليهم من الدين, فقال:
أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة, ثم أمر منادياً: من كان عليه لقيس حقٌ فهو
منه في حل, قال:
فانكسرت درجته بالعش؛ لكثرة من عاده( ).
وكتب غلامٌ لحسان
بن أبي سنان إليه من الأهواز: أن قصب السكر أصابته آفة, فاشتر السكر فيما قبلك.
قال: فاشتراه من
رجل فلم يأت عليه إلا قليل, فإذا فيما اشترى ربح ثلاثين ألفاً, فأتى صاحب السكر, فقال:
يا هذا إن غلامي كان كتب إلي ولم أعلمك, فأقلني فيما اشتريت منك, فقال الآخر: فقد أعلمتني
الآن وطيَّبته لك. قال: فرجع فلم يحتمل قلبه, قال فأتاه فقال: يا هذا إني لم آت هذا
الأمر من قبل وجهه, فأحب أن يسترد هذا البيع, قال فما زال به حتى ردَّ عليه( ).
قال سلمة الفراء:
كان رأس مال عتبة الغلام فلساً يشتري به خوصاً -الخوص: ورق المقل والنخل والنارجيل
وما شاكلها, واحدته خوصة- يعمله ويبيعه بثلاثة فلوس, فيتصدق بفلس ويتعشى بفلس, وفلس
رأس ماله.
أخي المسلم:
دع التهافت في
الدنيا وزينتها
ولا يغرنك الاكثار والجشع
واقنع بما قسم
الرحمن وارض به
إن القناعة مال ليس ينقطع
وخل عنك فضول العيش
أجمعها
فليس فيها إذا حققت منتفع(
)
ولو تأمل الناس
اليوم في كلمات يسيرة لهانت الدنيا..
قال شميط بن عجلان:
إنما بطنك يا بن آدم شبر في شبر فلِمَ يدخلك النار( )؟
لا يومك ينساك
ولا رزقك يعدوكا
ومن يطع في الناس
يكن للناس مملوكا
فليكن سعيك لله
فإن الله يكفيكا( )
كان داود الطائي
قد ورث عن أمِّه أربعمائة درهم, فمكث يتقوتها ثلاثين عاماً, فلما نفذت جعل ينقض سقوف
الدويرة (تصغير الدار* فيبيعها حتى باع الخشب, والبواري (مفردها البورية): وهى الحصير
المنسوج من القصب واللبن حتى بقى في نصف سقفه, وجاءه صديقٌ له فقال: يا ابا سليمان
لو أعطيتني هذه فأبضعها لك؛ لعلنا نستفضل لك فيها شيئاً ينتفع به, فما زال به حتى دفعها
إليه, ثم فكر فيها فلقيه بعد العشاء الآخرة فقال: أرددها عليّ فقال: ولم ذاك يا
أخي؟ قال: أخاف
أن يدخل فيها شيء غير طيب فآخذها( ).
تقنع بما يكفيك
واستعمل الرضى
فإنك لا تدري أتصبح أم تمسي(
)
قال الحسن: بئس
الرفيقان, الدينار والدرهم لا ينفعانك حتى يفارقاك( ).
وقال مالك بن دينار:
وددت أن الله عز وجل جعل رزقي في حصاة أمصها, لا ألتمس غيرها حتى أموت( ).
وقال محمد بن سوقة:
أمران لو لم نعذب إلا بهما لكنا مستحقين بهما لعذاب الله؛ أحدنا يزاد الشيء من الدنيا
فيفرح فرحاً ما علم أنه فرحه بشيءٍ زاده قط في دينه, وينقص الشيء من الدنيا فيحزن عليه
حزناً ما علم أنه حزنه على شيء نقصه قط في دينه( ).
قال الشافعي: ما
فزعت من الفقر قط, طلب فضول الدنيا عقوبة, عاقب بها الله أهل التوحيد( ).
عجبت لمن يخاف
حُلول فقر
ويأمن ما يكون من المنون
أتأمن ما يكون
بغير شك
ترك التجارة للعبادة
قال -عز وجل- محذرًا
من الانشغال عن الطاعة والعبادة بأمور الدنيا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ
أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون: 9].
قيل لبشر بن الحارث:
بالله يا أبا نصر أيهما أحلى، الدنانير أو الدراهم؟ قال: الطاعة والله أحلى منهما جميعًا(
).
وقال خلف بن حوشب:
كنت مع الربيع بن أبي راشد في الجبانة فقرأ رجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ
[الحج: 5] فقال الربيع: حال ذكر الموت بيني وبين كثير من التجارة، فلو فارق ذكر الموت
قلبي ساعة، لخشيت أن يفسد عليَّ قلبي. ولولا أن أخالف من كان قبلي لكانت الجبانة مسكني
إلى أن أموت( ).
قال أبو الدرداء:
بعث النبي وأنا تاجر، فأردت أن تجتمع
لي العبادة والتجارة، فلم يجتمعا، فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة، والذي نفس أبي
الدرداء بيده، ما احب أن أملك حانوتًا على باب المسجد لا يخطئني فيه صلاة، وأربح فيه
كل يوم أربعين دينارًا، وأتصدق بهما كلها في سبيل الله، قيل له: يا أبا الدرداء ما
تكره من
ذلك؟ قال: شدة
الحساب( ).
قال أبو الدرداء
اعبدوا الله كأنكم ترونه، وعدوا أنفسكم في الموتى، واعلموا أن قليلاً يغنيكم، خير من
كثير يلهيكم، واعلموا أن البر لا يبلى، وإن الإثم لا ينسى.
وكان الفضيل بن
عياض يقول: أصلح ما أكون أفقر ما أكون، وأني لأعصي الله أعرف ذلك في خلق حماري وخادمي(
).
وقال أبو علي الثقفي:
يا من باع كل شيء بلا شيء، واشترى لا شيء بكل شيء.
وقال: أف من أشغال
الدنيا إذا أقبلت، وأف من حسرتها إذا أدبرت( ).
فلو كانت الدنيا
تنال بقطنة
وفضل ونقل نلت أعلى المراتب
ولكنما الأرزاق
حظ وقسمة
بفضل مليك لا بحلية طالب
قال أبو حازم سلمة
بن دينار: يسير الدنيا يشغل عن كثرة الآخرة( ).
يقولون لي فيك
انقباض وإنما
رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم
هان عندهم
ومن أكرمته عزة النفس إكرامًا(
)
وقال مالك بن دينار:
السوق مكثرة للمال، مذهبة للدين( ).
أخي المسلم:
قال ابن مسعود:
إن العبد ليهم بالأمر في التجارة والإمارة، حتى ييسر له فينظر الله إليه فيقول للملائكة:
اصرفوه عنه؛ فإنه إن يسرته له أدخلته النار، فيصرفه الله عنه، فظل يتطير بقوله: سبني
فلان وأهانني فلان. وما هو إلا فضل الله -عز وجل-( ).
قال أبو حازم سلمة
بن دينار: إن بضاعة الآخرة كاسدة، فاستكثروا منها في أوان كسادها، فإنه لو جاء يوم
نفاقها لم تصل منها إلى قليل ولا كثير( ).
وقال عبد الرحمن
بن مهدي: والله لا تجد فقد شيء تركته ابتغاء وجه الله، كنت أنا وأخي شريكين فأصبنا
عللاً كثيرة، فدخل قلبي من ذلك شيء، فتركته لله، وخرجت منه، فما خرجت من الدنيا حتى
رد الله علي ذاك المال، عامته إليَّ وإلى ولدي، زوج أخي ثلاث بنات من بني، وزوجت ابنتي
من ابنه، ومات أخي فورثه أبي، ومات أبي فورثته
أنا فرجع إليَّ
وإلى ولدي في الدنيا( ).
تجرد من الدنيا
فإنك إنما
خرجت إلى الدنيا وأنت مجرد(
)
قال الحسن: مسكين
ابن آدم رضي بدار حلالها حساب، وحرامها عذاب، إن أخذه من حله حوسب به، وإن أخذه من
حرام عذب به، ابن آدم يستقل ماله، ولا يستقل عمله، يفرح بمصيبته في دينه، ويجزع من
مصيبته في دنياه( ).
وقيل لعبد الله
بن عمر: توفي فلان الأنصاري. قال رحمه الله. فقيل: ترك مائة ألف، قال: لكن هي لم تتركه(
).
أموالنا لذي الميراث
نجمعها
ودورنا لخراب الدهر نبنيها
تلك المنازل في
الآفاق خاوية
أضحت خرابًا وضاق الموت بانيها
قال أبو الدرداء:
الحمد لله الذي جعل الأغنياء يتمنون أنهم مثلنا عند الموت، ولا نتمنى أننا مثلهم حينئذ،
ما أنصفنا إخواننا الأغنياء، يحنوننا على الدين، ويعاودوننا على الدنيا( ).
ويصبح متفكرًا
في خيانة شريكه، وتقصيره في العمل، وتضييعه المال.
وكذا سائر أنواع
المال، حتى صاحب المجموع المكنوز يفكر في كيفية حفظه، وفي الخوف عليه.
ومن له قوت يوم
بيوم فهو سلامة من جميع ذلك، وهذا سوى ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا، من الخوف،
والحزن، والهم، والغم، والتعب.
فإذا ترياق المال
أخذ القوت منه، وصرف الباقي إلى الخيرات، وما عدا ذلك سموم وآفات( ).
قال يحيى بن معاذ:
مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما في ماله (أي في مال الإنسان) عند موته، قيل:
ما هما؟ قال: يؤخذ منه كله ويسأل عنه كله.
يريد المرء أن
يعطى مناه
ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي
ومالي
وتقوى الله أكرم ما استفادا(
)
قال أبو الدرداء
رضي الله عنه: أبو الدرهمين أشد حبسًا، أو قال أشد حسابًا من ذي الدرهم( ).
بيان علاج الحرص
والطمع
والدواء الذي تكتسب
به صفة القناعة
اعلم أن هذا الدواء
مركب من ثلاثة أركان:
الصبر، والعلم،
والعمل، ومجموع ذلك خمسة أمور:
الأول: الاقتصاد
في المعيشة، والرفق في الإنفاق، فمن أراد القناعة، فينبغي أن يسد عن نفسه أبواب الخرج
ما أمكنه، ويرد نفسه إلى ما لا بد له منه، فيقنع بأي طعام كان، وقليل من الإدام، وثوب
واحد، ويوطن نفسه على ذلك، وإن كان له عيال، فيرد كل واحد إلى هذا القدر.
قال النبي : «ما عال من اقتصد»( ) وفي حديث آخر: «التدبير
نصف العيش»، وفي حديث آخر: «ثلاث منجيات: خشية الله -تعالى- في السر والعلانية، والقصد
في الغنى والفقر، والعدل في الرضى والغضب».
الثاني: إذا تيسر
له في الحال ما يكفيه، فلا يكون شديد الاضطراب لأجل المستقبل، ويعينه على ذلك قصر الأمل،
واليقين، بأن رزقه لا بد أن يأتيه، وليعلم أن الشيطان يعده الفقر.
وعن ابن مسعود
رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: «إن روح القدس نفث
في روعي، أنه ليس من نفس تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب،
ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله -عز وجل-، إنه لا يدرك ما عند الله
إلا بطاعته».
وإذا انسد عنه
باب كان ينتظر الرزق منه، فلا ينبغي أن يضطرب قلبه، فإن في الحديث: «أبى الله أن يرزق
عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب».
الثالث: أن يعرف
ما في القناعة من عز الاستغناء، وما في الطمع والحرص من الذل.
وليس في القناعة
إلا الصبر عن المشتهيات والفضول، مع ما يحصل له من ثواب الآخرة، ومن لم يؤثر عز نفسه
عن شهوته، فهو ركيك العقل، ناقص الإيمان.
الرابع: أن يكثر
تفكره في تنعم اليهود والنصارى وإرذال الناس، والحمقى منهم، ثم ينظر إلى أحوال الأنبياء
والصالحين، ويسمع أحاديثهم ويطالع أحوالهم، ويخير عقله بين مشابهة أرذال العالمين،
أو صفوة الخلق عند الله -تعالى- حتى يهون عليه الصبر على القليل، والقناعة باليسير،
وأنه إن تنعم بالأكل فالبهيمة أكثر أكلاً منه، وإن تنعم بالوطء فالعصفور أكثر سفادًا
منه.
الخامس: أن يفهم
ما في المال من الخطر، كما ذكرنا في آفات المال، وينظر إلى ثواب الفقر، ويتم ذلك بأن
ينظر أبدًا إلى من دونه في الدنيا، وإلى من فوقه في الدين، كما جاء في الحديث من رواية
مسلم أن رسول الله قال: «انظروا إلى من هو أسفل
منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم»( ).
وعماد الأمر: الصبر
وقصر الأمل، وأن يعلم أن غاية صبره في الدنيا أيام قلائل لتمتع دائم، فيكون كالمريض
الذي يصبر على مرارة الدواء لما يرجو من الشفاء.
كان الأوزاعي الفقيه
كثيرًا ما يتمثل بهذه الأبيات:
المال ينفذ حله
وحرامه
يومًا ويبقى بعده آثامه
ليس التقي بمتق
لإلهه
حتى يطيب شرابه وطعامه
ويطيب ما يجني
ويكسب آجله
ويطيب من لفظ الحديث كلامه
نطق النبي لنا
به عن ربه
فعلى النبي صلاته وسلامه(
)
رزقنا الله جميعًا
الرزق الحلال الطيب المبارك، وجعل ما في أيدينا عونًا على الطاعة، وغفر لنا ولوالدينا
ولجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق